البيانات الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء تدق جرس إنذار لإنقاذ الأسرة المصرية من تفشى ظاهرة الطلاق، لما لها من آثار اجتماعية ونفسية خطيرة، فالإحصائيات تشير إلى قفزة جديدة في معدلات الطلاق خلال العام 2021، مقارنة بالعام الذي سبقه بلغت نسبتها 14.7 %، حيث سجلت حالات الطلاق ارتفاعا وصل إلي 255 الف حالة مقابل عدد الحالات المسجلة في 2020 والتي بلغت 222 ألف حالة بواقع حالة طلاق كل دقيقتين، وهى قفزة كبيرة للغاية خلال عام واحد، مما يدعو المختصين والمسئولين والباحثين إلى تتبع أكثر دقة وشمولا لأسباب تلك القفزة الهائلة فى معدلات الطلاق، والتحديات التى تواجه الأسرة المصرية، كونها اللبنة الأساسية لبناء المجتمع، والحاضنة لقيمه وهويته، وصانعة مستقبله، فالمؤكد أن هناك مجموعة كبيرة من المشكلات التى تعوق بناء أسرة متماسكة، وعلينا معالجة تلك المشكلات قبل أن يزيد استفحالها عما هى عليه، ونسعى بخطوات جدية إلى إعادة التماسك الاجتماعى الذى يبدأ بالأسرة.
من خلال ملاحظاتى العامة فى إطار علاقاتى ومشاهداتى وقراءاتى يمكن أن أشير إلى بعض أوجه الخلل، وإن كنا بحاجة إلى مزيد من الدراسات المعمقة والدقيقة، التى تتيح لنا فهما متكاملا حول التهديدات الرئيسية التى تواجه تشكيل واستمرار الأسرة، وبالتالى التوصل إلى سبل للعلاج، فالمتغيرات الجديدة التى طرأت على العلاقات الاجتماعية، وتفاعلاتها قد أضرت بذلك الكيان المقدس، وإن كانت الأسباب الاقتصادية تأخذ الحيز الأكبر من تفسيرات الظاهرة، إلا أنها غير كافية، وهذا لا يقلل من أهمية الجانب الاقتصادى وما يسببه من ضغوط على تكوين واستمرار الحياة الزوجية، ويزيد من الصعوبات التى تواجه الزوجين، خاصة الرجل، المنوط به الجانب الأكبر من الإنفاق على الأسرة، ونعلم أن الحصول على مسكن ملائم وعمل ونفقات التجهيز وغيره تمثل عبئا كبيرا لا يستطيعه شاب حديث التخرج أو ملتحق بسوق العمل منذ فترة قصيرة، غالبا ما تتولى أسرته مساعدته فى هذا الجانب الذى لا يستطيع تحمل نفقاته، ويحتاج إلى سنين طويلة من أجل توفيرها، وهناك من يلجأون إلى الاستدانة من أجل توفير متطلبات إقامة عش الزوجية وتكاليفه الجانبية الكثيرة، مثل حفلات الزواج، التى أصبحت عبئا إضافيا بعد أن أصبحت إقامة الأفراح فى الفنادق والقاعات المجهزة عادة لدى قطاع كبير من المجتمع، يتباهى بإقامة العرس فى أفضل وأغلى الأماكن كجزء من إبراز المكانة الاجتماعية، ولاحظت من الإحصائيات أن أعلى معدلات الطلاق تحدث فى السنوات الأولى من الزواج، والمؤكد أن أعباء الزواج يمكن أن تترك أثرها على الزوجين فى بادئ حياتهما التى ينبغى ألا تكون ثقيلة، وأن نخفف من الإنفاق غير الضروري، لدعم واستقرار الأزواج الجدد، بدلا من الضغوط المبكرة عليهما، وإذا كانت الفترة الماضية قد تفجرت فيها أزمات اقتصادية عالمية، بدءا من تفشى جائحة كورونا إلى الحرب الأوكرانية، وما تلاها من نزاعات دولية وحروب اقتصادية أثرت على معظم بلدان العالم، وارتفعت الأسعار وتقلصت فرص التوظيف، بل دفعت قطاعات مثل السياحة إلى خفض كبير فى نشاطها. لكن العوامل العامة ليست وحدها السبب الذى يمكن إلقاء التهمة عليه، فلدينا مشكلات كثيرة أضرت العلاقات الزوجية، منها على سبيل المثال عدم بناء علاقة الزواج على أسس قوية من التقارب والتفاهم، والاكتفاء بالتركيز على القدرة الاقتصادية، وإهمال باقى العوامل التى لا تقل أهمية، وعلى رأسها الروابط النفسية، والانسجام الفكرى والقيمي، فهذه الجوانب مهمة للغاية فى تقارب الشريكين، وقدرتهما على فهم وتحمل كل منهما للآخر، وخاصة أن الأسرة الممتدة تقلصت، فالعائلات لم يعد لها دور مهم فى الزواج، وأصبح الأمر بأيدى الشريكين بالأساس، وأحيانا يكون تدخل أسرتيهما سلبيا وليس عاملا داعما، وكأنهما فى منافسة أو صراع، مما يوسع الفجوات، ويزيد من المشكلات والأزمات، ولهذا على الأسرتين إما الكف عن التدخل، أو لعب دور فى التقريب بين الطرفين، وليس الوقوف مع طرف ضد آخر، فيتحول الزواج إلى ساحة حرب. وكانت العائلات فى الماضى تقف حائلا دون تطور المشكلات، ويتدخل الحكماء فيها للحيلولة دون وقوع الطلاق الذى كان مكروها للغاية، ولا يحدث إلا فى أضيق نطاق، وإذا حدث فلأسباب تستحق الانفصال، أما الآن فالكثير من حالات الطلاق تتم لأسباب بسيطة، كان من الممكن تداركها وحلها مبكرا، أو التدخل المبكر بالتربية والاعتياد على تحمل المسئولية، ومعرفة كل طرف بواجباته ودوره، وأن مصلحتهما واحدة، وأن عليهما مواجهة أى أزمة بروح من المودة والحرص على الاستمرار، خاصة عندما يكونا قد أنجبا أطفالا يستحقون حياة آمنة وهادئة.
إذن علينا فى البداية التركيز على الاختيار الصحيح والمناسب بمنتهى الشفافية والوضوح، وألا يكون الزواج صفقة بين طرفين، إنما علاقة مقدسة يحتضنها التفاهم والمودة والتجانس، ثم تأتى ثقافة التعايش، وألا يسعى كل طرف إلى تحميل الآخر واتهامه بالتقصير، واستسهال التملص من المسئولية المشتركة، والعمل معا على مواجهة أى أزمة أو ظرف صعب قد يواجه الزوجين، وأن تكون التضحية والعطاء هى عنوان العلاقة الزوجية، بينما تقود أنانية أى طرف إلى تحطيم العلاقة، وألا ينجر أى منهما لمقارنة وضعه بمن هم فى حالة أفضل، وأن تستمر المقارنات التى تقود إلى تشقق وفجوات تتزايد باستمرار لتصل إلى حد القطيعة.
ثم نأتى إلى مرحلة الشروع فى إجراءات الطلاق التى عادة ما تتم بسرعة، دون إعطاء المهل الكافية للمراجعة والتراجع، فى ظل حالة من الاستقطاب الحاد بين أسرتى الشريكين، وكأنهما جيشان يجريان المناورات قبل الحرب وأثناءها، ولا يدركان أن هذا التمزق لكيان الأسرة ستكون له عواقب وخيمة على الطرفين والأبناء، فالمهم أن يتحقق النصر للطرف المنتمى إليهم، وإلقاء كل التهم على الآخر، وغالبا ما يفتعلون أقوالا أو أفعالا ينسبها كل منهما للآخر، غالبا لا تكون حقيقية أو مبالغ فيها، لكن الحرب تجيز استخدام أسوأ أنواع أسلحة التشهير والانتقام، وقد قرأت ورأيت على صفحات التواصل الاجتماعى جانبا من تلك المعارك التى تأججت على تلك المنصات، وأصبح هناك أتباع ومتابعون ومشاركون بالرأى فى مسائل بالغة الخصوصية، ولا يجوز مناقشتها على الملأ، وتجييش المناصرين لها، فلا تنفع بعدها أى محاولة للصلح ولم الشمل. لقد لعبت منصات التواصل أدوارا سيئة فى العلاقات الزوجية، سواء قبلها أو أثناءها أو بعدها، فكثير من الزيجات تمت عن طريق تعارف عبر منصات التواصل، لكنها لا تكفى غالبا لتكوين تصور وانطباعات وعلاقة راسخة، وكثيرا ما يقع الغش والتحايل فيها، والبعض يقع فى هذا التعارف السطحي، وغالبا ما يكون هشا، وأثناء الزواج يستمر انشغال الزوجين بمنصات التواصل التى تعطى إحساسا زائفا بالتحقق، وكسب أصدقاء كثر، وهذا ليس عيبا فى ذاته، لكنه قد يصبح البديل عن علاقة حقيقية، وتفاعل يومى بين الزوجين، يؤدى لمزيد من التقارب، بينما الواقع الافتراضى الذى توفره منصات التواصل يأخذ الأسرة بعيدا، كل منهم فى اتجاه، على حساب الوقت والمشاعر داخل الأسرة، وكثيرا ما نرى أفراد أسرة واحدة فى مكان واحد، وكل منهم يحمل هاتفه منشغلا به عن باقى أفراد الأسرة، وهذه الآفة تلحق ضررا بليغا بالعلاقات الأسرية، خاصة بين الزوجين، وبالطبع تتيح تلك المنصات فرص صداقات شتى، وتثير الشكوك، وتكون مغرية للاستمرار فيها، خاصة فى حالات الملل الأسرى المعتاد، فتكون حياة موازية رغم هشاشتها، وتزيد الفجوات، وتضعف الروابط الحقيقية.
كما قرأت لباحثات أن الجمعيات النسوية لعبت دورا آخر فى التباعد بين الزوجين، حيث تسعى لتصوير العلاقة بين الرجل والمرأة على أنها معركة، وأن الجمعية النسائية تنظيم مكافح ضد سطوة الرجال، وتروج لأفكار وسلوكيات منقولة عن مجتمعات أخرى، وتعتبرها منتهى العصرية، بينما تؤدى فى الواقع إلى تردى العلاقة بين الجنسين، خاصة الزوجين، وغالبا لا تنتج تلك الجمعيات إلا نماذج مشوهة، لا هى عربية ولا مصرية، وإنما هجين غير متماسك، يساعد فى الإضرار بالأسرة، بدلا من أن تكون الجمعيات النسوية عاملا مساعدا على التماسك الاجتماعي، والاهتمام برفع مهارات ووعى المرأة وأدوارها فى مجتمعنا.
إننى أناشد كل الجهات المعنية بالأسرة والمرأة والأطفال أن تتحرك بسرعة من أجل المزيد من الدراسة الجادة، من أجل إنقاذ الأسرة وحمايتها.