أظن أننى .. لا.. بل أنا متأكد.. وهذا يدهشنى.. ومتأكد جدًا وفى تمام يقظتى ووعيى من أننى شددت على ابنتى أستاذ الجامعة أن تؤكد بدورها على الطبيب من توقيع كشف طبى شامل على جسدى قبل التصريح بدفنى..
لم يحدث شيء من هذا وكنت أتوقع فى كل لحظة أن أنتبه للكزة يد ابنتى وهى تحثنى لأقوم من هذا الكابوس..
آه.. هو كابوس اذن.. لابد أن يكون كابوسًا وإلا فماذا يكون .. هه؟!
وهنا.. ماذا أفعل عبثًا هنا ومن حولى الكفن الأبيض يلفنى ويكاد يخنقنى فلا أستطيع التنفس.
أين ابنتي؟ وأين لكزتها؟ وأين أى شيء يزيل تراكم كل شيء؟
هل سيتركوننى هكذا وحيدًا؟.. وحيدًا؟! يا لها من كلمة مخيفة.. وحيدًا ينتظر الموت ليأتى فى أى لحظة.. وعلى أى صورة..
يزحف الواقع على جسدى الذى بدأت أشعر ببرودته.. الأمر أنه ليس كابوسًا.. لا أتصور ذلك بل هو واقع ومخيف..
ما زالت قبضتى اليمنى متشبثة بذلك الشيء الذى لم يستطع الحنوط أن يفتح أصابعى ليخرجه..
فتحت أصابعى..
وتذكرت
إنه أحد أمواس الحلاقة، لست أدرى لماذا فكرت فى أننى قد أحتاجه فى موقف كهذا؟ المكر قد يفيد أحيانًا، بل هو يفيد دائمًا.
فتحت أصابعى وأخرجت الموسى وقد رأيت بصيصًا من نور الأمل فى النجاة يتقدم زاحفًا نحوى ومتسلقًا جسدى الذى بدأت الحياة تغادره..
سأسرع!
نعم.. لابد أن أسرع وأقطع هذه الأكفان المتلففة حولى.. لم يكن كفنًا واحدًا ولكنهم ثلاثة.. المسألة ليست سهلة، لكنه الأمل.. والإصرار على النجاة.. رحت أمزق كل ما طالته يدى من الأكفان ليتسلل النور فى البداية ثم يهجم مقتحمًا سواد الموت الذى يخنقنى..
ورحت أحاول الخروج من الكفن.. ولكننى وجدت أننى سأخرج عاريًا.. لا يهم.. لا يهم، والمهم الآن هو الخروج والزحف نحو درجات سلم المدفن.. كان هناك بصيص بسيط من النور يدخل من فرجات الحجر الذى أغلقوا به فتحة المدخل.
حاولت أن أتذكر اسم حارس المقبرة.. إنه آخر أمل.. لا أمل.. لم أتذكره لكننى صرخت: أنا هنا.. أنا هنا.. أنا لم أمت.. ومازلت حيًا.. فزعت لأننى أسمع صوتى..
خارت قواى.. لا بل بدأت تخور مع ما قد تبقى لى من الأمل فى النجاة.. الأمل فى أن تكون ابنتى قد خشيت أن الطبيب لم يستوعب تمامًا تحذيرها له من التأكد من وفاتى.. مازال الأمل فى أن أسمع صوتها فى الخارج مع الحارس تحثه بلهفة مستغيثة أن يفتح لها باب المقبرة فربما….
فربما ماذا؟!
أحس أن الموت قد وضع ذراعيه تحت إبطيّ ليحملنى إلى حيث لا أعرف..
صرخت: أسرعى يا دكتورة إنه يحملنى مسرعًا إلى حيث لا أعرف!!
انسحب بصيص النور الداخل من فتحات الحجر الذى يسد غطاء المدفن فساد ظلام بارد له رائحة خبيثة. مددت ذراعى على طولها أسحب الأكفان المقطوعة لأغطى بها أجزاء جسدى العارى متلمسًا أيضًا بعض الدفء ومتوخيًا من زحف الحشرات فى المدفن.. نفضت الأكفان ما استطعت ليسقط عنها ما قد يكون قد علق بها من الحشرات أو الديدان..
زحف بعض الدفء إلى الجسد العارى ثم عاد بصيص النور بعد برهة ليغيب من جديد.
أسندت رأسى إلى إحدى درجات المدفن لأستسلم لإغفاءة قد تكون سدًا بينى وبين هذه المشاهد الكئيبة.. فتسللت إلى ما تبقى داخلى من الوعى لمحة من مشهد من إحدى قصص ألف ليلة عن ذلك الزوج الذى دفنوه عقب وفاة زوجته..
المشاهد من حولى متناثرة ومخيفة، الجماجم تحمل فوقها عمائم أو تيجانا وهياكل عظمية تزينها العقود الذهبية بما فيها من مجوهرات.
دارت فى رأسى للحظة فكرة أن أحمل هذه الجواهر ثم أبحث عن طريق للخروج بها.. وانتبهت إلى أن المشهد لم يكن إلا فرجة خلال غفوة من النوم، فلا مدفن ولا زوجة هندية ولا ذهب ولا جواهر ولكن موت!
..
«موت»
..
موت من حولى، ثم سقطت إلى الأرض مما كان يحملنى من تحت إبطى.. ثم عاد الضوء يسطع فى المكان مع هدير السيارة البعيد وصوت احتكاك عجلاتها كالأمل الهارب إلى بعيد بلا أى وعد أو أمل فى العودة!
مع صوت ابنتى ومن معها وهى تربت على جسدى وتستحثنى أن أقوم.. لم أعد أدرى أو أعرف شيئًا مما يدور حولى ووجدتنى مضطرًا لأن أفتح عينى ومازلت متمسكًا بالأكفان التى تسترنى لأجدنى متلففا بملاءة السرير عند قدمى ابنتى.
دون أن أنهض سألتها عن الطبيب أين ذهب..
نظرت إليّ ولم ترد..
فعدت أسألها إن كانت قد أكدت عليه أن يتأكد هو بدوره من وفاتى قبل دفنى..
لكنها لم ترد أيضا ومضت تغادر الغرفة تاركة وراءها أمرًا يفيد بضرورة أن نتجهز جميعًا للسفر فى رحلة بعيدة قد تستمر أيامًا كثيرة..
قمت فيما أنا أحاول ترتيب أفكارى لأعرف شيئًا عما يحدث وخمنت أننى ربما استطعت خلال الرحلة الجديدة ان أعرف شيئًا لا أعرفه عما يحدث!!
--------------------------------------------------------------------
قبل أن تقرأ هذا النص
بقلم: كرمة سامى فريد
فى اليوم التالى لوفاة والدى سامى فريد دخلت غرفته لأبحث «عنه» فى أوراقه، واكتشفت داخل مذكرة سوداء صغيرة مهملة قصة مونولوجية كتبها بيد أنهكتها الكتابة لكنها تصر على البوح إلى آخر لحظة. لم يكتب لها عنوانًا وكأنه ترك الأمر لي! ولم يدون تاريخ كتابتها وكأنه لغز جديد من ألغازه التى كان يحفزنى بها! ولكنى من حواراتى اليومية معه التى كان يتصور أنى لم أكن أنتبه لما يقوله لى فيها، أتذكر أنها كتبت منذ ثلاثة أشهر تقريبا. فقد طلب منى، على استحياء، عدة مرات أن أقرأها. كرر طلبه كلما نلتقى فى الصباح قبل ذهابى للعمل متحفزة، أو فى المساء عند عودتى مستنفدة. لكنه لم يعطنى النص، وكالعادة نسيت أن أذكره، وبالتالى فلم أقرأه، وكأنه اتفاق بيننا أن يكون لقاء الابنة بالنص حين تكون فى أمس الحاجة إلى كلامه وسرده وقدرته الإبداعية المدهشة على رصد أى موقف إنسانى، وكأنه كان يعلم أن النص «نصل» يذبح ابنة لا تتمنى من الله سوى أن يديم حضور والدها فى حياتها. هكذا ترك والدى النص بقسوة غريبة لمصيره أن يُقرأ أو يُجهل! فلو وجدته الابنة فقد فازت ولو أغفلته فقد حكم الأب الأديب على هذا المونولوج السردى البديع عن الموت «بالموت»!!
قرأت النص بقلب الابنة وعقل الناقدة، لاحظت انتماءه إلى المرحلة الأخيرة فى كتابات والدى التى رست فيها سفينة إبداعه فى مرفأ الشيخوخة ليكشف لنا جماليات هذا العالم وهذه المرحلة التى عبر عنها دون أن تشيخ قدرته على الوصف المنمنم لتفاصيل مشاعر الروح، بل يتجاوز، (وأنا مسئولة عما أقول والنصوص بيننا) أقرانه من الكتاب الذين برعوا فى كتابة سرديات الشيخوخة فكتبوا عن المرض والخرف والوحدة وعقوق الأبناء ورحيل شركائهم فى الحياة، فها هو يكتب «سردية الموت» وهاجس أن يصبح القبر زنزانة الحى مستلهمًا عناصر تراثية وواقعية ليدمجها فى نص خارج نسق عمدة أعماله، فهو لمحة من سيرة سردية ذاتية استشرافية، تجذبنا إلى طرح إدوارد سعيد عن «الأسلوب المتأخر»، فيكاد النص يقول فسروني:
أخيرًا.. النص الأخير الذى كتبه والدى، بعد رحلة امتدت أكثر من نصف قرن من الإبداع، عن الشيخوخة واستشراف الموت والأسلوب المتأخر، والصحوة الشبابية التى تتناقض مع الاستسلام للفناء وترى الموت من زاويتين مختلفتين من الابنة والأب فهو «رحلة بعيدة» (الابنة) و«رحلة جديدة» (الأب)، لكن الأب الأديب يستسلم «استسلام المنتصرين» معلنًا للقارئ فى الجملة الأخيرة:»ربما استطعت خلال الرحلة الجديدة أن أعرف شيئًا لا أعرفه!!»