عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
نزيرة الأفندى تكتب: محفز الاطلاع والعطاء
18 نوفمبر 2022
000;


توافق الاحتفال بمئوية ميلاد د. بطرس غالى ( 14 نوفمبر 1922) مع خوض العالم لتحديات ضخمة وأزمات متشابكة، اختلط فيها الاقتصاد مع الجغرافيا السياسية والسلاح مع الفقر واهتزاز النظام المالى العالمى، بل والشروخ التى أصابت المؤسسات والمنظمات العالمية والإقليمية، التى تلت الحرب العالمية الثانية. فكانت إيذانا بحرب باردة متعددة الجبهات.



هذا المشهد الدولى المعقد الملتهب يعد بمنزلة شهادة جديدة توثق لمدى اتساع الرؤية والقدرة على استشراف المستقبل، وعمق النظرة التحليلية التى كان يمثلها د. بطرس غالى على امتداد سيرته الأكاديمية والعملية التى اختتمت بالعمل الدبلوماسى. فقد كان للقضايا العربية والإفريقية والعالم الثالث مركز الصدارة فى اهتماماته، بتأكيد دور الحوار بين الجنوب عبر القارات وتتبع وتحليل أحداث الشمال ودلالاتها وانعكاساتها على الجنوب.



فعندما نتحدث عن أزمة المناخ والتغيرات البيئية وشح الموارد المائية، وسد النهضة ، سوف يطل علينا د. بطرس غالى بكلماته التى يضغط فيها على مخارج ألفاظه: ( إفريقيا.. ودول حوض النيل خاصة) ووثقها فى كتاباته.



وعندما نتحدث عن الفوضى الراهنة والحرب الباردة الساخنة المتقطعة بين القوى المتصارعة، سوف يطل علينا دكتور بطرس غالى بأهمية الحوار بين الجنوب ودور الدول النامية فى تنظيم صفوفها ودعم تعاونها، من خلال المؤسسات الدولية الراعية لها والتكتلات الإقليمية الداعمة.



ومن هنا كان الامتياز، نعم الامتياز، الذى ظفر به من تتلمذوا على يديه فى «الأهرام».. ناهيك عن كونهم نهلوا من علمه الأكاديمى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.



هذا الامتياز يتمثل فى خضوعنا لمحفزات د. بطرس غالى من أجل توسيع دائرة الاطلاع والواقعية فى التعرف على تشابك القضايا. وترجمة كل ذلك فى عطاء متواصل لا يخضع لأى أعذار أو استثناءات.



وقد وصف د. غالى طبيعة العمل فى «الأهرام الاقتصادي» والتى مهدت للسياسة الدولية ومركز الدراسات السياسة والإستراتيجية، بقوله: « كانت تجربتى معه هى التجربة التى علمتنى أصول الصحافة المتخصصة كما تعلمت منها الكتابة المبسطة التى تتوجه إلى الجمهرة الواسعة من القراء، مما أعاننى على الخروج من أبراج الجامعة ومما دفعنى إلى متابعة القضايا الدولية واليومية وزودنى بطاقة متجددة وعودنى على بذل مجهود مستمر لا يعرف التراخى، لأن المجلة لابد أن تصدر دوريا، وما أن ينتهى العدد حتى تبدأ الاستعدادات للعدد الذى يليه دون التقاط الأنفاس».



ومن هذا المنطلق وتلك القناعة، كان النموذج الفريد والمتميز الذى يمثله د. بطرس غالى، للرئيس الذى يرتفع بمستوى المرؤوس، ولا يعمد إلى سحقه أو إهماله، مادام وثق فى إمكاناته. وهذه هى تجربتى معه. لقد كانت الخطوات الأولى لاقتحام عالم السياسة الدولية والأهرام الاقتصادى شاقة ومضنية، ولكن التحلى بالأمل والصبر والعمل، الذى حفزه د. غالى بسعة أفقه وتوجيهاته، مهد الطريق وأضاف إلى الرصيد.



قد يكثر الحديث عن د. غالى بصفته وزيرا وأمينا عاما للأمم المتحدة. وقبل هذا وذاك كأستاذ جامعى، ولكن القليل أتيحت لهم فرصة الاقتراب منه كصحفى متشوق إلى كل ما هو جديد. لقد كان دقيقا فى التفاصيل الفنية للإخراج وكذلك اتجاهات الإعلان والسعى الدائم لإيجاد شبكة من العلاقات لزيادة التوزيع للأهرام الاقتصادى والسياسة الدولية. ظلت الاشتراكات من جانب الكليات والهيئات تمثل الدور الرئيسى فى هذا النطاق، وقبل هذا وذاك كانت الدقة فى المواعيد. ما أتحدث عنه كان منذ 52 عاما من الزمان.. وليس الآن.. لقد كان سباقا ورائدا.



لقد جمع د. غالى فى أدائه دوره الصحفى بين الأضداد.. البساطة الشديدة والهدوء فى ممارسة العمل دون التطلع إلى الأبهة والمظاهر، والحرفية العالمية والحزم الشديد فى تحفيز العاملين معه من أجل الإنتاج والعطاء.



لقد اكتفى بـ « راديو ترانزاستور» فى المكتب لمتابعة آخر التطورات الدولية والإقليمية والداخلية. ولكن كان ذا معرفة موسوعية ونظرة استشرافية وتحليلية للأحداث، وفهم شديد للاطلاع على كل ما هو جديد بالنظر إلى كونه أستاذا جامعيا، ويترجم هذا فى تكليفه المتواصل والعاجل والحاسم للعاملين معه بإعداد سلسلة متلاحقة من الموضوعات « اعملى دى.. ودى.. ودي».



وقد كان د. غالى صارما وحاسما فى مجال التوجيه للعمل الصحفى، إلا أنه وفى الوقت نفسه كان يحمل قدرا يعتد به من روح الدعابة فى مواجهة بعض المواقف التى تحتاج إلى مرونة فى التعامل، خاصة فى مجال الشكوى من ضعف العلاوة وانخفاض الرواتب. فبقدر الصرامة والحدة فى النظرة، يكون حجم اتساع الابتسامة فى مجال الدعابة فى وجود أ. نبيهة الأصفهانى و أ. نبيل صباغ رحمة الله عليهما من خلال الحوار بالفرنسية. فقد كانت كلمة السر فى انطلاق الحديث الفضفاض سواء مهنيا أو جدليا. وتكلل بابتسامة عريضة من جانب د. أحمد يوسف القرعى، رحمة الله عليه، معلنا الانسحاب من الحوار الفرانكفونى.



ولا بد أن نتذكر بكل إجلال واحترام أ. نبيهة الأصفهانى، فقد كانت أيقونة السياسة الدولية، إخلاص منقطع النظير، وثقافة وعطاء لا ينضب حتى نضب النظر.. كانت الساعد الأيمن للدكتور بطرس.. حاضرا أو غائبا.. رحمة الله عليها.



ولقد حظيت بشرف العمل فى ظل رئاسة الدكتور بطرس غالى لكل من الأهرام الاقتصادى والسياسة الدولية ثم مركز الدراسات السياسة والإستراتيجية، وقد كان له الفضل فى الحث على الاستزادة من المعلومات والاطلاع والدقة والتجويد فى العطاء ليخلق علاقة وثيقة بين العمل، وحب المهنة، والأداء.



سأظل أحمل له كل امتنان وشعور بالوفاء، فقد تنقلت بين قضايا وتطلعات الدول الصاعدة، من خلال توجيهات، وراقبت طموحات وجموحات الدول المتقدمة بإرشاداته، وتفحصت هموم الاحتلال والفقر والتسلح والاستنزاف بتكليفاته. لقد تعلمت منه الكثير.. تحفيز المعرفة والعلم للارتقاء وتجويد العطاء. لا مجال للأهواء ومزاجية الاختيار .. رحمة الله عليه.