مبادرات الخير.. إرث مصرى أصيل
لمصر تاريخ طويل وخبرات متراكمة منذ القدم فى مواجهة الأزمات، فعندما كان فيضان النيل يقل وينخفض منسوب المياه اللازمة للزراعة وينخفض الإنتاج، كانت المبادرات الجماعية للمصريين القدماء تلعب الدور الرئيسى فى مواجهة أزمة الغـــــذاء، مــــن تحســــــين القــــدرة على التخزين إلى ترشيد الاستهلاك والتكــافل الاجتمــاعى البعيد عن الدولة، وكان للفقير أو القعيد أو المريض حصة من الإنتاج مهما كانت الظروف والصعـــوبات منذ عرف المصرى القديم قيمة التكافل والعمل الجماعى، خاصة وقت الأزمات وكذلك عندما كان يأتى الفيضان مرتفعا ويجرف ما يقابله فيهدم البيوت ويغرق الزرع ويهلك الممتلكات.
كان التعاضد الاجتماعى الواسع وتشكيل الفرق المنوط بها عملية الإنقاذ والإخلاء، يليها توفير الاحتياجات الضرورية وتوزيع ما يتوافر من غذاء وإيواء ودواء وترميم وإعادة بناء البيوت، هذا الإرث الحضارى فى المواجهة الجماعية للكوارث والأزمات أنقذ مصر على مدار الزمن ومنحها حياة متجددة، تزدهر أحيانا وتشوبها الصعوبات أحيانا أخرى, وإذا كان إيقاع الحياة قد تغير ولم تعد بعض العائلات والقرى كما كانت فى الماضى بسبب اتساعها فإن الإرث الحضارى يمكن إن نجد بذوره فى شبابنا؛ فعند وقوع حادث كبير يتجمع الناس للإنقاذ السريع وتتوقف السيارات عند اندلاع نيران فى شاحنة أو سيارة ويتعاونون فورا فى الإنقاذ بإطفاء النيران ونقل المصابين وتقديم الإسعافات العاجلة والتبرع بالدماء أو أى مساعدة يحتاجها المصابون.
هذه الجينات المصرية الأصيلة أجدها حإليا فى مبادرات شبابية كثيرة، فأجد صفحات على مواقع التواصل تجمع ما تبقى من أدوية لدى المرضى المتعافين وتوزعها مجانا على المحتاجين وتخصص أرقام هواتف يتصل بها المتبرع أو المحتاج تحت إشراف صيادلة وأطباء من الشباب وجدوا أنهم يوفرون الكثير على المرضى الفقراء ويخففون عنهم العناء وانتشرت هذه المبادرات التى توظف أدوية كان يجرى التخلص منها أو تركها مخزنة حتى تفسد، وقدموها لتنقذ حياة آخرين وتداوى آلام المحتاجين ويمرون بسياراتهم على المتبرعين ويذهبون إلى مساكن المحتاجين أو إلى صيدليات ومستشفيات تتولى توزيع هذه الأدوية.
مبادرات أخرى كثيرة وجدتها بين مجموعة من شبابنا دون توجيه فكروا فى غيرهم وقرروا ألا يكتفوا بالصمت على مشكلة، وأن يقدموا دورا لمجتمعهم وبلدهم وأن يعبروا عن إنسانيتهم وضمائرهم ورثوا حب الخير عن آبائهم وأجدادهم الذين كانوا يسألون عن المحتاج ويذهبون إلى مساعدته سرا، ويرسلون إليه الغذاء والدواء ليرث أبناؤهم وأحفادهم بذرة الخير والإيجابية بدلا من الاكتفاء بإبداء الحزن والشفقة أو إلقاء المسئولية على الآخرين أو الدولة، وواجهوا الأزمات كلٌ بطريقته أو بفكرته التى تجمع حولها أصدقاء ومعارف أو أشخاص تقاسموا معهم حب فعل الخير فظهرت مبادرات جمع الغذاء والملابس والبطاطين مما لا يحتاجه البعض بينما يحتاجه آخرون، وسداد مصروفات الطلاب الفقراء بالمدارس وغيرهم، وهناك من ساهم بالمال أو التنقل أو التنظيم، فكان تكافل حب لبلدهم وأهلهم.
ولا تتوقف المبادرات عند حد تقديم المساعدة للفقراء أو المرضى فهناك مبادرات اخرى بتوفير فرص عمل من خلال المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، بدأت التجربة فى أحد الأحياء الفقيرة حيث تم إنشاء ورش صغيرة منها ورشة لمجموعة من الشباب تعمل على تزويد أسطح المبانى بألواح الطاقة الشمسية التي وفرت الكثير من المال وكان تركيبها يعتمد على التمويل الذاتى من خلال التقسيط، ولما أدرك الجيران وأحياء أخرى أنها توفر عليهم الكثير وتخفض قيمة فواتير الكهرباء بأقل من قيمة التقسيط اتسع المشروع ليشمل مساكن وأحياء جديدة ويوفر طاقة نظيفة ورخيصة ومتجددة وتوفر فرص عمل للشباب وتجعل المساكن أكثر جمالا وتحمى أسطحها من حر الصيف وأمطار الشتاء.
مشروع آخر جمع الشباب من خلال جمع وإعادة تدوير النفايات، وكان البعض ينفر من الفكرة فى البداية ويراها نوعا من جمع القمامة، لكن عندما تعرفوا على قيمة هذا النوع من العمل وفوائده وأرباحه تغيرت النظرة وأصبحوا يشاركون فى جمع القمامة وفرزها إلى مواد عضوية وأخرى صلبة أو معدنية وأسلاك وأجهزة قديمة يصلح بعضها ليكون قطع غيار لأجهزة أخرى والباقى يجرى تدويره من خلال صهره ليصبح خامة قابلة للتشكيل، أما المواد العضوية من أطعمة غير صالحة فيجرى استخدامها فى صناعة أعلاف أو مواد قابلة للاشتعال يمكن استخدامها كمصدر للطاقة.
وما أحوجنا إلى مثل هذه المبادرات الآن، فالعالم يمر بأزمة خطيرة يمكن أن تطول ولا ينبغى الانتظار وعلينا أن تفكر فى حلول ونبتكر ما يغنينا عن الاستيراد، وشبابنا ملىء بالحيوية والذكاء والابتكار، وهو ما يتوازى مع ما تقوم به الدولة من دعم وتوسيع ونشر تلك المبادرات المتنوعة وتقديم العون والتسهيلات لهم، وينبغى على البنوك أن تكون فعالة فى دعم المشروعات المتنوعة والمبادرات وأن تتحلى بالشجاعة التى تتناسب مع ضرورات اللحظة وأن تتخلى عن بعض الشروط والضمانات وأن تراهن على نجاح الشباب بعد دراسة الجدوى، وأن تقدم لهم التمويل أو جزءا منه.
وهناك دور مهم للجامعات ومراكز الدراسات والبحوث، فلديها الكثير من الأفكار والحلول القابلة للتنفيذ فى الكثير من المجالات ويمكنها إنتاج أفكار ومبتكرات جديدة، يمكن طرحها على الشباب والبنوك والدولة، ينتج عنها إنشاء حضانات لدعم واحتواء أفكار الشباب ودعمهم لتحقيقها لتصبح الجامعات خلية نحل منتج ومبدع، وقادرة على تقديم حلول خلاقة بعقول وأيدى أساتذتها وباحثيها وطلابها.
وهناك دور أكبر لرجال الأعمال لدعم المشروعات الصغيرة وابتكارات الشباب مما يساعدهم ويفيدهم في استكمالها لتكون بدائل للواردات التى يمكن أن يحل المنتج المصرى محلها وتوفر ما نتكبده من عملات صعبة ويساعد على توفير فرص عمل ستكون داعمة للصناعة، والعمل على تطويرها بما يزيد الجودة والمنفعة المتبادلة لصالح وطن يحتاج إلى كل سواعد أبنائه حتى يكون أكثر قوة وتماسكا وقدرة على الإنتاج والإبداع وحب الخير.