عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
جراهام جرين.. الإبداع على حافة الجاسوسية!
2 أكتوبر 2022
محمد بركة
جراهام جرين


«أعداؤنا ليسوا المجرمين من الجهلة والبسطاء، بل الأذكياء الفاسدون» فهل كان الروائى البريطانى العظيم جراهام جرين، الذى تحل ذكرى ميلاده فى الثانى من أكتوبر كل عام، يقصد نفسه بهذه الجملة التى تعد وأحدة من أشهر العبارات المقتبسة من أدبه؟



لقد كان جاسوسا محترفا يعمل بدوام جزئى فى وزارة الخارجية البريطانية، وتحديدا فى قسم الاستخبارات. وتحت ألوان مختلفة من التخفى، سافر فى مهام غامضة إلى العديد من دول العالم «النائية» مثل «سيراليون» التى سافر إليها أثناء الحرب العالمية الثانية، فهل كان يلتمس العذر مسبقا من محكمة التاريخ حين قال: «إذا عرفنا الحقائق سيكون بإمكاننا غفران معظم الأشياء»؟



الحق أنه توالى صدور المؤلفات التى تكشف عن الوجه الآخر «المظلم» لأدباء عالميين انخرطوا فى مثل هذه الأنشطة التى لا تمنح الكثير من الشرف ومنها كتاب يحمل هذا العنوان الشيق «الكتاب العملاء الروائيون كجواسيس» صدر عام 1988 يتضمن كواليس تجنيد أجهزة الاستخبارات البريطانية لـ 12 كاتبا روائيا ومنهم «جراهام» صاحب بعض أشهر روايات القرن العشرين مثل «القوة والمجد» و«قطار اسطنبول» و«الأمريكى الهادئ» ..



والحق أيضا أن المرء لا يعرف سر تحول أدباء بريطانيا تحديدا إلى عملاء من طراز رفيع، فقد سبق «جرين» إلى هذا المصير كل من «كريستوفر مارلو» العبقرى مؤلف مسرحية «يهودى مالطه» ورفيق شكسبير الذى توفى 1593، و«سومرست موم» أحد أشهر أدباء القرن العشرين ومؤلف رواية «كنت جاسوسا»، و«آيان فيلمنج» مبتكر شخصية جيمس بوند الذى جندته محطة الاستخبارات فى نيويورك ليعمل على إقناع الولايات المتحدة بخوض الحرب إلى جوار لندن ضد هتلر.



ولد «جراهام جرين» عام 1904 طفلا مدللا لأسرة ثرية، لكنه عانى فى مراهقته نوبات حادة من الاكتئاب كادت تودى به فى هاوية الانتحار. له تجربة قصيرة فى الاشتغال بالتدريس وسرعان ما التحق بالعمل الصحفى الذى ساعده على السفر إلى العديد من بلدان دول العالم، لاسيما فى افريقيا وأمريكا اللاتينية. تدور معظم أعماله خارج حدود بلاده فى أجواء من التشويق والجاسوسية، لكن انتقادات حادة طالت هذا النوع من الكتابات باعتباره «سطحيا» و يفتقر إلى الأصالة ويستهدف جذب القراء، ما دعا الرجل إلى أن يعلن أن رواياته تنقسم إلى فئتين «الأعمال الجادة» و«الأعمال التى كُتبت بهدف التسلية».



الأكثر من ذلك أنه يعتبر الكتابة برمتها نوعا من الهروب من الواقع، فما الذى أراد الرجل الذى توفى فى «1991» أن يهرب منه تحديدا حتى يقول فى مذكراته: أتساءل أحيانا، كيف يمكن لكل أولئك الذين لا يبدعون أدباً أو فنّاً أو رسماً أو موسيقى، الهروب من الجنون والخوف المرعب المتأصل فى الموقف الإنسانى الذى نعيشه؟!، وقد قال الشاعر الإنجليزى أودن: «الإنسان يحتاج إلى الهروب، كما يحتاج إلى الطعام والنوم العميق، وأنا أهرب إلى الرواية»!.



وليس غريبا أن تكون للرجل فلسفة مميزة تربط بين الاجتماعى والإبداعى فى تجربته، فهو يربط كل شيء بكونه كاتبا، أى يستفيد من جميع المواقف التى يمر بها ويهضمها لتكون مادة خام لكتابة ما مقبلة، لكن الغريب حقا أنه يستخدم مفردات الجاسوسية وهو يعبر عن تلك الفلسفة النفعية البرجماتية. يقول: «الميزة العظيمة لكونك كاتبا هى أنه يمكنك التجسس على الناس. أنت هناك، تستمع إلى كل كلمة!».



المؤكد فى النهاية أنه لم يكن شديد التفاؤل، فهو يؤكد أن «اليأس هو الثمن الطبيعى الذى ستدفعه طالما سعيت وراء هدف مستحيل» وهو بذلك ينسى أن الطريق لتحقيق الهدف قد يكون أكثر متعة من الهدف نفسه!