عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
يوم صافحت رجلا حيا
5 أغسطس 2022
ليلى القبانى


توقف كلب مع مرافقه أمام رجل ميت، ونبح. كعادة الموتى لم يلتفت. لكن يداه ارتعشتا للتو حينما استطاع مصافحة الكفيف.



نظر الميت إلى صاحبه الجديد وسأله بألفة:



ــ أأنت بخير؟



ــ أنا بخير، لكننى متعب قليلا. هلا توجهنى إلى مقعد أرتاح عليه.



ــ أجل، من هنا. تفضل.











انقبض قلبه لثوان، حينما تخيل نظرات المرأة اللئيمة ذات اللسان «اللى عايز حشه» عندما جلسا معا على قبرها. متحججا بأن الحى أبقى من الميت. كما أنها لو جاءت لن تتشاجر معه، بل ستأخذها دهشة يمكن أن تُخرسها عامين، إن وجدته جالسا مع أحد الأحياء. يجلسان صامتين، حتى يسأله الكفيف عن «اسم الكريم».



يتعثر الميت. يتأخر فى الرد. يحاول أن يجد له اسما. لا يذكر. يحاول أن يتذكر أى شئ. يتذكره أخاه، وقد أحبه بشدة، وقضى سنينه الأولى يقاسمه ألعابه والحلوى وضرب أبيهما المجنون. لم لا يزوره الآن؟ أطرق برأسه فى أسى.



ــ أين ذهبت، يا ….



ــ أنا هنا، سرحت فقط. لا تؤاخذنى. اسمى يحيى.



ــ عاشت الأسامى، يا عم يحيى. أنا سليم الشرقاوى.



ــ أهلا بك، أستاذ سليم.



ــ قالها وهو يلحظ، الآن فقط، أنه يشعر بقليل من الدفء. وكان هذا غريبا.



ــ اتعيش هنا؟ أم أنك تزور أحد أقربائك أيضا؟



يتردد. لا يقول شيئا. يخاف. يحاول:



ــ أنا … لا أعرف. أنا آسف، يا أستاذ سليم؛ لكننى لا أتذكر أشياء كثيرة.



يصمتان. يحاول الميت ألا يدع تلك الفرصة تفوته. يتذكر. يستطرد:



ــ أذكر أشياء أخري… كنت أمل الحزن، لكننا تقابلنا كثيرا. أذكر حينما كنت صغيرا أننى إذا فعلت شيئا سيئا وازداد الهواء ثقلا فى البيت؛ دعوت صديقة أمى بحجة أننى أريد اللعب مع أبنائها. لكن الأمر هو أن حزن أمى أثقل ما اضطررت إلى حمله يوما. ومع ذلك فهو سهل، يُغسل بسهولة إن حضر جيراننا، وبدأوا ينمون على خلق الله ويتضاحكون معا. الضحك يخون الحزن، يسرق سُمه ويتركه سكينا باردة.



اعتادت أمى أن تنظر لى مع بزوغ أحاديث بعينها، وتخبرنى أن أذهب للعب. لا تقول جملتها تلك سوى عندما يكون شىء خليع سيقال. لم أكن طفلا فضوليا. أو أننى كنت أوجه فضولى إلى الأمور التى تستحق. كأحاديث الكبار تلك.



الخدعة فى الأمر هى ألا تنتبه. بمعنى آخر، لا تدعهن يظنن أنك منتبه لكلامهن. ستجدهن يضحكن على شىء لا تفهمه. أو سيحاولن خفض أصواتهن. عندها فقط أدرك أن شيئا مدهشا على وشك أن يقال. دعهم يرونك منهمكا فى أمر ما. إن غفت أمك عن وجودك، سيبدأ حديث ممتع. فى الواقع بعض تلك الأحاديث كانت مرعبة. لكنها لا تشبه أى شيء آخر ستسمعه.



ــ جميل، وماذا تذكر أيضا يا يحيي؟



كان الكفيف رجلا بسيطا. يرتدى بذلة صيفية رمادية مكونة من بنطال وقميص بكمين قصيرين وجيب صغير عند الصدر، يضع فيه ورقة مطوية. يسأله الميت وهو يشير إلى يديه.



ــ أتذكر اسمه؟



ــ اسم من؟



ــ الثعبان الذى عضك فى يدك…



لا يقول الكفيف شيئا، ويتذكر الميت أن صاحبه الكفيف لا يرى يديه. فيكمل:



ــ على ظهر يديك بقع حمراء وبنية. وقد رأيت مثلها فى يد الشيخ نوح، محفظ القرآن. ولما سألته قال إن ثعبانا عضه.



يرفع الكفيف كتفيه، ويبتسم. ثم يربت على فخذ الميت.



ــ لم أكن أعلم بوجودها. لكن، لا ثعابين. أظننى حرقت نفسى عندما كنت طفلا. أو أننى خلقت بها. على أى حال، سررت بلقائك، يا يحيى. سأرحل الآن لأن مشمشة جاعت. ألا تشعر بالجوع؟ دعنى اشترى لك سندويتش أو تذكرة تروماى إن كنت تذكر إلى أين ستذهب.



سأله بذهول.



ــ أتعرف الطريق إلى الخارج؟



ــ بالطبع، أنا آتى كثيرا، أين تريد أن تذهب؟



ــ أى مكان. أعنى أننى إن خرجت سأتذكر وجهتى.



ــ حسنا، يا سيدى، أمسك ذراعى حتى لا تتوه.



ــ يقولها الكفيف، ويضحك ساخرا.



ــ كيف تأتى إلى هنا؟



ــ أنا لا أعيش بعيدا عن هنا. أمشى نحو صوت ضوضاء المدرسة الكبيرة، وبعد بضع خطوات مستقيمة تنبهنى رائحة الفلافل، على ناصية الشارع، إلى المنعطف المطلوب. أمتأكد أنك ستكون بخير؟



ــ نعم. لا تقلق.



مد الكفيف يده مرة أخرى، فأخذها الميت بلهفة، فى سلام ودود. ظل يتابعه بعينيه حتى اختفى وكلبه وسط الزحام. ووسط الزحام ظل الميت يمشى، وحيدا، يتجاهل جيرانه؛ لأن الأحياء لا يرون الموتى. ولن يصافح الأحياء يخشى ألا يلمسوه. فتسحبه مجددا سلاسل الموت.