من الذى لا يمتلك تاريخا، يصنعه بيده عن طريق الحكايات المتخيلة؟. كل أمة تريد أن يكون لها أبطال مرجعيون تحكى قصصهم للأطفال الصغار لكى يتعلقوا بهم حتى لو كانوا خارقين ليس لهم وجود فى الحقيقة. أما تاريخ المنطقة العربية، فعامر بالقصص والأحداث والشخصيات التى تكفى لملء وكتابة مئات الكتب والروايات، إلا أنها عانت وعلى مدار سنوات طويلة من التجاهل، فظلت عشرات الشخصيات فى الظل لا يعلم أحد عنها شيئا. وهنا يستمر الكاتب إبراهيم أحمد عيسى فى تقفى أثر هؤلاء فى روايته الجديدة «بـابـر»، الصادرة حديثا عن دار كتوبيا للنشر.
تدور الأحداث فى زمن الدولة المملوكية فى مصر، وتحديدا فى عهد السلطان قنصوه الغوري، والخطر المتزايد الذى تواجهه الدولة والمتمثل فى قطع طرق التجارة والملاحة البحرية القادمة من الهند عن طريق البرتغاليين ذوى النزعة الاستعمارية الواضحة والرغبة فى السيطرة على هذا الخط الملاحى المهم أولا، ثم التفرغ للهجوم على مدن الدولة الإسلامية المهمة بداية من الحجاز ، وصولا لمدينتهم المقدسة «أورشليم».
كانت الدولة المملوكية تولى فى هذا التوقيت اهتماما كبيرا بأسطولها تحت قيادة الرئيس حسين الكردى أمير بحر سلطان المسلمين، خاصة بعد بناء البرتغاليين قاعدة عظيمة على ساحل الهند وانتصارهم على ممالك المسلمين هناك. والآن حان وقت الانتقام لمقتل الدون ابن نائب الملك فى المعركة البحرية التى دارت منذ عام وانتصر فيها أسطول المسلمين.
على متن السفينة الأعظم «المنصورة»، صعد شاب نجار صانع مراكب يُدعى «يونس» لأول مرة، لعله يكتسب ثقة البحارة المقاتلين الكبار ويُكتب له دور فى معركتهم المهمة القادمة. إلا أن استعدادات المعسكر الأوروبى هذه المرة كانت مغايرة، فسقط ما تبقى منهم أسرى فى حصون البرتغاليين على الأراضى الهندية. فهل تكون هذه نهاية سطوة المماليك على البحار وبداية طريق مفتوح لأسطول البرتغاليين نحو المدن الإسلامية؟ وما هو مصير ما تبقى منهم، خاصة ذلك الشاب الذى لم تبدأ أحلامه إلا وقد وجد نفسه أسيرا.
مرة أخرى يتم المراهنة على دهشة القارئ والسؤال الذى يأتى إلى ذهنه فور معرفة المكان الذى تدور فيه الأحداث. هل فعلا وصل المسلمون لهذه البقاع من الأرض وكانت لهم حكايات وبطولات؟ وهل سمعت من قبل عن تميز أسطول المسلمين والمعارك التى خاضها فى بحار بعيدة عنهم حتى وصلت للهند؟
أرسى الكاتب قواعد الصراع منذ البداية فجعلها واضحة أمام القارئ، وكان من السهل بعد ذلك تتبعها وإضافة أبعاد أخرى لها. فنحن أمام تهديد قوى لخطوط التجارة وسفن الحج والعمرة القادمة من الهند، مع عدو له رغبات انتقامية واضحة، ولابد من التحرك الآن بالأسطول البحرى لمواجهة كل هذا. وعلى أرض الهند، يتم إضافة التناحر الدينى بين الطوائف الهندوسية والمسلمة والبرتغالية المستعمرة.
وجاءت الشخصيات ممثلة عن تلك الأطراف الثلاثة المتصارعة، فنتعرف على الأفراد المؤثرين فى أسطول المسلمين بين تاريخ حربى مشرف وحاضر وظروف قاسية ، لوردات الأسطول البرتغالى والحكايات التى تدور دائما بينهم عن الانتقام والخيانة، وأهالى الهند المحليين بمعتقداتهم وتقاليدهم الخاصة والغريبة ومصالحهم التى تتأرجح ما بين المسلمين والمستعمرين الجدد. وتلخص الجملة التالية أحد أهم الصراعات الداخلية التى واجهها البطل على مدار الأحداث: « أنا يونس، ابن نجار القوارب أيوب المصري، سارق وهارب من بيت أهله، حسب نفسه مجاهدا، وانتهى به المطاف أسيرا يعاون أعداء أمته»
زخرت الرواية بالحوارات الثنائية بين أبطالها، ترسم بوضوح دوافع الشخصيات وتكشف معتقدات قائلها. كثرة الحوار تلك، ساهمت فى تجربة قراءة سريعة وغير مملة على الإطلاق على الرغم من كبر حجم الرواية نسبيا - 400 صفحة - ، إلا أنها فى نفس الوقت جاء على وتيرة مسرحية شبه واحدة، غير عابئة باختلاف الثقافات وخلفيات المتحدثين.
أخيرا، كانت لدى الرواية فرصة عظيمة لسرد تفاصيل أكثر عن حياة البحارة وكواليس الأسطول وصناعة السفن فى تلك الفترة مثلما ذهبنا معه إلى بلاد الهند وتعرفنا على بعض من تقاليدهم فى تلك الأرض البعيدة. «بابر» - وهو اسم النمر باللغة الفارسية - رواية ممتعة، تستمد عامل جذبها من تقديم تاريخ وتفاصيل غير مأهولة أو كما يحب تسميتها الكاتب «حكايا المنسيين»، وتثبت أننا لسنا فى حاجة لاختلاق أبطال، يكفى فقط أن نبحث عنهم جيدا ونقدمهم فى أفضل صورة ممكنة تليق بمكانتهم العظيمة.