عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
فنان الملح وفارس الاسطوانات
10 يونيو 2022
صخر صدقي


شقا طريقهما إلى العالمية بمثابرة واقتدار.أحدهما الفنان الشاب برسى مايميلا Percy Maimela»1985»، والثانى المنتج، ومؤلف الأغانى والعازف بلاك كوفى «1976» وكلاهما من جنوب إفريقيا، وكلاهما حاولا دخول موسوعة جينيس للأرقام القياسية، نجح الأول برسى مايميلا لتحقيق الرقم القياسى بعد أن جسد ملامح الثانى بلاك كوفى Black Coffee فى صورة عملاقة، رسمها بحبيبات البن. بينما أخفق بلاك كوفى فى دخول موسوعة جينيس بعد أن قام بالعزف بيد واحدة لمدة 60 ساعة متواصلة فى إحدى القاعات الموسيقية الشهيرة فى سويتو. ومع إخفاقه فى تحقيق الرقم القياسى فى موسوعة جينيس إلا أنه حصل على جائزة جرامى فى الموسيقى هذا عام 2022 Grammy award وهى الجائزة التى تشبه جائزة الأوسكار فى السينما من ناحية الاحتفال والقيمة والأهمية.








وليكن بداية الحديث عن فنان الملح بيرسى مايميلا الذى وجد فى الرسم متنفسا للحياة منذ طفولته، حيث لم يزد على كونه هواية يستمتع بما يتلقاه من استحسان من أساتذته ومن زملائه دون أن يخطر على باله أنه سوف يأتى اليوم الذى تتطور فيه هذه الهواية إلى أن تصبح مهنة يتكسب منها بجانب كونها تجلب له الشهرة، فهو لم يدرس الفن ولم يحصل إلا على الشهادة الثانوية، حاول بعدها دراسة العلوم ودراسة الإعلام غير أنه لم يجد نفسه سوى فى ممارسة الفن، تفرغ له وكرس له كل وقته بتصميم غريب ليس فقط لجذب الانتباه إلى أعماله، ولكن أيضا للتربح من تسويقها. بدأت الفكرة تتبلور فى رأسه عام 2014 أثناء عمله فى محل تجارى. كان يتجول فى المحل وقت الراحة عندما وقعت عينه على كم من الملح وقد تسرب من الجوال الذى يحويه، كان من المفترض وكما هو معتاد فى هذه الحالة أن يلملمه ويتخلص منه كنفاية، غير أن منظر الملح وهو يفترش الأرض أغواه بتشكيله. مدفوعا بحاسته الفنية جثا على ركبتيه وبدأ يمارس هوايته فى الرسم لكن هذه المرة بدون قلم وبدون فحم، اندهش عندما رأى النتيجة وكانت وجها بعينين قاسيتين، أخذ برهة يمعن النظر فى الوجه، أعجبه تناسق الملامح واكتمالها لكن لم ترقه النظرة، كان قد مر عشرين دقيقة وهو على هذا الوضع، وهو يفكر فى الكيفية التى يبدل بها النظرة فوجئ بزملائه فى المتجر وقد تحلقوا من حوله وهم يطلقون صيحات الدهشة وإيماءات الإعجاب، ولم يكن مدير المحل بعيدا عن المشهد فلم يبخل عليه بالثناء على موهبته. ورغم براعته بالرسم بالقلم وبالفحم إلا أن اكتشافه لقدرته على تشكيل الملح فنيا دفعه للتفكير فى استغلال هذه الميزة كوسيلة مبتكرة وسريعة التأثير لشد انتباه المتلقى وللترويج لبقية أعماله. وكان له ما أراد، ازداد عدد المعجبين بفنه وببراعته فى الرسم بالملح. قرر عام 2015 أن يستقيل من عمله ويتفرغ للفن، لكنه عندما أبلغ أسرته بالقرار، قابلوا رغبته بشيء من القلق على مستقبله خاصة أنه ليس من أسرة من الفنانين ، وصار كل همه أن يبرهن لهم بالدليل الفعلى على أن اختياره للفن كمهنة ليس ترفا ، وليس مجرد نزوة ، ولكنه واقع له مردوده المادى المجزى. بدأت شهرته كفنان الملح Salt artist فى الاتساع بعد ظهور أعماله فى إحدى القنوات على الشاشة الصغيرة. الشيء الطريف أن مديرة تسويق إحدى شركات الملح الكبيرة صرحت بأن أعماله التى تزداد شعبيتها على النت جعلته أفضل من يروج لشركتهم المنتجة للملح فى Swartkops وأفضل من يتحدث عن الأوجه العديدة لاستخدامه. وكان يقيم معرضا سنويا تحت عنوان ملح الأرض The salt of the earth فى مسارح جنوب إفريقيا، لكن نظرا لظروف انتشار كوفيد ــ 19 انتقل نشاطه إلى اليو تيوب وقد حققت له انتشارا أوسع، ومن أكثر فعالياته الفنية هى تلك التى يحاول فيها تعليم الأطفال التشكيل بالملح، وكان يقول لهم ناصحا بأن أى مادة قابلة للتشكيل فنيا . عندما تفرغ للفن تغير مسار حياته وصار الاستمتاع بعمله من قبل المتلقى له مذاقا حلوا أضفى معنى وقيمة على حياته، كل ما ظل يطمح فيه هو أن يطيل من عمر عمله بالملح الذى كان بطبيعته قصيرا، بمجرد أن يخرج إلى الوجود تلتقط له الصور قبل اندثاره وقبل أن ينمحى مع أى هبوة ريح ، وبالفعل توصل إلى وسيلة لتثبيت الصورة الملحية برش مادة لاصقة عليها.




اعترافا بموهبته وتقديرا له كفنان تشكيلى يحظى بالاحترام صار له الاستوديو الخاص به فى المبنى الشهير لكبار الفنانين بجنوب إفريقيا فى قلب مدينة جوهانسبرج والمعروف ببيت أغسطس August house وهى التسمية الشائعة للبرلمان فى بعض الدول الإفريقية، والكلمة ليست لها أى علاقة بشهر أغسطس، لكنها وكما هو مبين بالقاموس الأمريكى كلمة وصفية تعنى قدسية وأهمية المكان وبأنه موضع احترام وتبجيل، وقد تم افتتاح المبنى عام 2008 وبه نحو 50 فنانا تشكيليا معاصرا.



كانت فرحة فنان الملح Salt artist عظيمة لوجوده فى المكان نفسه الذى شهد تجمع أشهر وأعظم الفنانين التشكيليين فى جنوب إفريقيا، نذكر منهم نلسون ماكامو Nelson Makamo كودزانى تشيوراى Kudzanai Churi نيكولاس هلوبو Nicholas Hloboومارى سيباندى Mary Sibande . وبشغف تلميذ مجتهد استغل وجوده بين هؤلاء الفنانين الكبار ليستفيد من معلومات ومواضيع لم يخطر على باله وجودها، كما أنهم لم يبخلوا عليه بخبرتهم الطويلة فى التسويق مما ساعده على تسويق أعماله على نطاق واسع خاصة أن رسوماته بالملح لم تعد قاصرة على الشخوص التى تحظى بشهرة واسعة مثل نيلسون مانديلا، ولكن أيضا على الناس العاديين، وهو يرى أن أفضل ما رسمه من الشخصيات المؤثرة هو ألبرت آينشتاين، وقد استغرق العمل فى تشكيل ملامحه ثلاثة ساعات، ومن نجوم جنوب إفريقيا الذين تأثر بهم جو مافيلا Joe Mafela وكان متعدد المواهب منتج ومخرج وممثل وموسيقى ورجل أعمال، وبشكل عام لا يتخير فنان الملح من الشخوص التى يقوم برسمها إلا تلك التى تجتذبه شخصيتها وملامحها، يقول بأنه عندما يشرع فى رسم شخصية بعينها فإنه يفعل ذلك بتعاطف ومحبة وروحانية، كما أنه يجد فى نظرة العين جاذبية خاصة، من خلالها يقرأ ما تعكسه من أحاسيس ومن مشاعر، ومن خلالها يتغلغل إلى أعماق الشخصية، ولشدة تماهيه مع الشخصية التى يرسمها، يجد نفسه يخاطبها بصوت مسوع وكأنها تتجسد حية أمامه، ودائما ما ينذهل من النتيجة، عندما يرى الرسمة تنطق بما ارتسم فى ذهنه. يصف نفسه فى هذه اللحظات من الاندماج فى العمل بأنه يعيشها كجلسة علاج نفسى، يتطهر فيها من أى مشاعر سلبية ويشعر خلالها بأنه يتسامى بروحه، ولأنه يؤمن بأننا نمتلك من الإمكانات ما يمكننا من إنجاز أى شيء وبأبسط الأدوات، استخدم البن بدلا من الملح فى الرسمة التى دخل بها موسوعة جينيس للأرقام القياسية. عمل نحو أربع ساعات متواصلة لينجز أكبر اسكتش فى العالم بالبن 55x متراً ونجح فى تحقيق الرقم القياسى ودخول الموسوعة، والشخصية التى جسد ملامحها فهى كما سبق وأشرنا للمنتج، ومؤلف الأغانى والعازف الجنوب إفريقى Nkosinathi المعروف باسم الشهرة بلاك كوفى، ولم يكن حصوله على جائزة الجرامى هذا العام إلا تتويجا لما حصل عليه من العديد من الجوائز المحلية والعالمية، يعزف بيد واحدة ببراعة واقتدار، لأن اليد أليسرى أصيبت فى حادث طريق أثناء الاحتفال بالإفراج عن نيلسون مانديلا عام 1990 أعجزها الحادث عن الحركة وصار كل اعتماده فى العزف على اليد اليمنى. على نغماته يرقص الآلاف من كل الجنسيات، يعتبرونه أكثر فرسان الاسطوانات مهارة، فهو DJ دى جى عالمى وكما هو معروف هى اختصار للكلمة الإنجليزية Disk Jokey فارس الأسطوانات، ينتقى وينسق المقاطع الموسيقية المؤثرة والموحية، يحرفها يولفها، ينوعها، يضيف إليها مؤثرات موسيقية تستثير الأحاسيس وتداعب المشاعر وتحفز الأجساد على الاهتزاز والتمايل، غالبا ما يحدث هذا فى التجمعات الكبيرة وفى الأجواء الاحتفالية. ومن المعروف أن الرقص جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان الإفريقى سواء كان هذا فى المناسبات أو فى الطقوس والاحتفالات الدينية. تميل موسيقى بلاك كوفى إلى الهدوء والليونة بأكثر منها إلى الصخب والإثارة، غالبا ما يكون عزفه فى الساحات الوسيعة، وفى القاعات المكشوفة، يتوهج حماسا وهو يرى الأيادى تشاركه العزف وهى تلوح فى الهواء، الأجساد وهى تتماوج فى انتشاء، والأبصار وهى تتجه نحوه فى سعادة وامتنان.



وصدق من قال «وما الذى يحتاجه الإنسان سوى البهجة!» وما الفن بكل تجلياته إلا الصانع الحقيقى للبهجة.