فى لحظة فارقة، لم ينسها الألمان ومن ورائهم الأوروبيون والعالم كله، وعد المستشار الألمانى أولاف شولتس فى خطاب شهير أمام البرلمان الألمانى «البوندستاج»، فى ٢٧ فبراير الماضى، بعد ثلاثة أيام من اشتعال الحرب الأوكرانية، بـ«تحول تاريخى» فى سياسيات برلين، نافضا وعود الماضى بتبنى السلمية وعدم التسلح، ومبشرا بصعود قوة عظمى على الساحة العالمية لإعادة ضبط المشهد العام، بعدما عادت مشاهد الدمار والقصف من جديد لمدن أوروبا وشوارعها.
الخطاب التاريخى، الذى رفع أسهم شولتس حينها إلى عنان السماء، بما تضمنه من وعود بتخصيص 100 مليار يورو لإعادة تسليح الجيش الألمانى، وإنهاء الاعتماد على الطاقة الروسية، والسماح بإرسال أسلحة ألمانية إلى مناطق الصراع، تحول سريعا إلى لعنة تطارد المستشار الألمانى أينما ذهب، تطالبه بالإجابة عن علامات الاستفهام والتعجب التى باتت تحيط بغياب الدور الألمانى عن مشهد الحرب فى أوكرانيا.
فشولتس الذى وصل حديثا إلى المستشارية، فى ديسمبر الماضى، خلق بخطابه غير المعهود فى تاريخ السياسية الألمانية، حالة من الحماس والتطلع فى الشارع الألمانى وبين حلفاء أوروبا، مترقبين ما ستتمخض عنه الأيام المقبلة من مفاجآت برلين، التى كان من المفترض أن تزداد سخونة مع تصاعد أحداث الحرب واشتعالها، إلا أن المستشار الألمانى فاجأ الجميع بصمته وغيابه عن المشهد، لتسود حالة الإحباط العام، وتتعالى موجة السخط والانتقادات اللاذعة، إلى الحد الذى شكك البعض، ومن داخل حزبه، الاشتراكى الديمقراطى، فى جدية تلك الوعود، معتبرا أنها لم تكن حقيقية من الأساس.
بل وخاطبه كبار مسئولى الأحزاب الشريكة فى الائتلاف الحاكم، الخضر والديمقراطى الحر، بلهجة غير معهودة أسفل قبة البرلمان الألمانى. وقال أنتون هوفرايتر رئيس لجنة الشئون الأوروبية بالبوندستاج، الذى ينتمى لحزب الخضر، إنه يجيب من يسألون عن غياب ألمانيا وترددها فى إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا وحظر واردات الطاقة الروسية بأن «المستشار هو المشكلة»، بينما دعته مارى أجنيس ستراك سيمرمان رئيس لجنة الدفاع بالبرلمان، والتى تنتمى للديمقراطيين الأحرار «بادر بحمل العصا بيدك، واضبط الإيقاع»، مضيفة «نعلم أنه ليس متحدثا جيدا، لكنه بحاجة لأن يتكلم، لأن يظهر فى أوروبا».
الثورة أيضا ضد شولتس شملت الإعلام الألمانى الذى اتهمه بأنه فاقد القدرة على التواصل مع الرأى العام وأفراد حكومته لدرجة مزرية. وقالت مجلة «دير شبيجل» إن شولتس يتكتم على معظم التفاصيل حتى عن أفراد حكومته، كما لو كان الصمت سياسة جيدة فى حد ذاته، متهمة إياه بأنه يجعل برلين دوما فى ذيل القائمة عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، ويتخذ القرارات عندما لا يوجد مفر من اتخاذها، تاركا القيادة لأمريكا ودول شرق أوروبا.
ولعل المأخذ الأول والرئيسى لكل هؤلاء على شولتس، هو أنه يراوغ دوما لدى سؤاله عن أوكرانيا، ويرفض حتى اللحظة، رغم اقتراب الحرب من شهرها الثالث، زيارة كييف، والوقوف إلى جانب رئيسها فولوديمير زيلينسكى، كما فعل معظم قادة العالم ورؤساء حكوماته. هذا إلى جانب تردده فى إرسال الأسلحة الثقيلة لأوكرانيا، ورفض حظر الطاقة الروسية، مما دفع بعض قادة البوندستاج لتنظيم رحلة بشكل منفرد لكييف، رغم تحذيرات برلين، لتعويض الدعم الألمانى المفقود.
ذلك التجاهل من جهة شولتس، الذى وصل إلى حد الإحساس بالتعرض للخيانة، يشعر به الساسة الأوكرانيون جيدا فى كييف، ولا سيما بعد حيثيات قراره، الذى خرج فى 26 أبريل الماضى بعد طول انتظار، بالإفراج عن أسلحة ثقيلة لأوكرانيا، شملت 50 دبابة من طراز جيبارد، أوقفت معظم دول العالم العمل بها منذ نحو 20 عاما، و7 مدافع هوتزار 2000، لن تصل لكييف قبل الصيف، فى حين تطالب كييف بمائة مركبة «ماردر»، و88 دبابة من طراز «ليوبارد 2»، التى تعد درة السلاح الألمانى.
ولعل كييف عبرت عن استيائها بوضوح مؤخرا، عندما رفض زيلينسكى استقبال الرئيس الألمانى فرانك - فالتر شتاينماير فى أوكرانيا، مما اضطره لإلغاء رحلته فى اللحظة الأخيرة، بينما شبه أندريه ميلنيك السفير الأوكرانى فى برلين شولتس بـ»قطعة النقانق»، مقللا من شأن المساعدات المالية، التى خصصها المستشار الألمانى لبلاده، والمقدرة بـ 1,2 مليار يورو، على اعتبار أنها لا تساوى شيئا، مقارنة بالـ 16 مليار يورو، التى خصصها لمواطنيه للتخفيف من آثار الحرب.
وسط كل هذا، يبدو شولتس «مصفحا « ضد الانتقادات، إذ لايزال محافظا على هدوئه وتكتمه أمام الرأى العام، موضحا أن المساعدات، التى تقدمها ألمانيا لأوكرانيا، تتم بالتنسيق مع الحلفاء فى أوروبا وحلف شمال الأطلنطى «الناتو»، مؤكدا أن الناخبين صوتوا له ليقود البلاد، وفقا لرؤيته، وليس وفقا لاستطلاعات الرأى. كما علل تردده فى عدم المضى قدما فى حظر الطاقة الروسية، بأن الهدف من العقوبات الإضرار بالاقتصاد الروسى، وليس الأوروبى، منوها بأن الحديث عن ألمانيا كقوة عظمى يوم البوندستاج لا يعنى بالضرورة عسكرية فقط، بل اقتصادية أيضا.
فى الوقت ذاته، تظهر تصريحات معاونى شولتس للرأى العام ووسائل الإعلام كما لو خرجت من أشخاص يعيشون فى «عالم مواز»، على حد تعبير « دير شبيجل». فهم يعللون تكتمه على أنه ضرورة لإبقاء بوتين فى الظلام، معتبرين أن الانتقادات الموجهة للمستشار طبيعية ومنطقية، وجميع القادة معتادون على العمل تحت ضغط.
لا شك أن شولتس لديه مشكلة فعلا فى التواصل مع الرأى العام سواء داخل ألمانيا أو خارجها، فهو فى ذلك يعد النقيض على الطرف الآخر لزيلينسكى. ومع ذلك، ليس ذلك السبب الرئيسى والأوحد لتحفظه حيال الملف الأوكرانى.
فللإنصاف، حقق المستشار الألمانى تغييرا حقيقيا فعلا فى السياسة الألمانية. فقبل بضعة أسابيع، لم يكن أحد يتوقع أو ينتظر من ألمانيا، التى تعيش بخطيئة الحرب العالمية، أن تقوم بإرسال أسلحة إلى مناطق صراع، إلى الحد الذى يصبح فيه الجدل اليوم، هو ما مدى فاعلية تلك الأسلحة فى حسم المعركة؟. فإعادة تفكير ألمانيا فيما كان يعد من «مسلمات سياستها»، هو ما يظهر شولتس اليوم أيضا فى ثوب «المتلكع المتخاذل»، وإن كان ذلك يتطلب أيضا من المستشار الألمانى التوضيح دوما وباستفاضة لمواطنيه وحكومته أن المشهد العالمى يتغير، ومن ثم على ألمانيا أن تتغير أيضا، وما هى آليات ذلك التغيير.
سبب آخر، هو علاقات ألمانيا التاريخية المميزة جدا بروسيا، والتى ورثها شولتس عن سابقيه فى المستشارية، نتاج سياسات قديمة تعود للسبعينيات، عرفت باسم « سياسة الشرق»، والتى كانت تهدف حينها لتحييد روسيا من خلال ربطها بعلاقات تجارية مميزة بالغرب الأوروبى، مما قاد ألمانيا مع الوقت لاعتماد كثيف وأعمى على الطاقة الروسية لتشغيل مصانعها، ليكون من الصعب الآن الإقلاع فجأة، وإلا تغامر ألمانيا بتوقف مصانعها وبطالة عمالها. فوفقا لإحصائيات العام الماضى، تعتمد برلين على موسكو فى 55% من وارداتها من الفحم، و34% من البترول، و55% من الغاز الطبيعى.
أيضا العقيدة داخل الحزب الاشتراكى الديمقراطى، الذى ينتمى إليه شولتس نفسه، والذى سن قبل عقود سياسة الشرق حيال روسيا، لا يزال متحفظا فى أفكاره حيال معاداة الكرملين صراحة، بل ولا يتقبل بعض الأفكار مثل «أوروبا أولا»، ويندد فى منتديات الشباب صراحة بأحلام الناتو فى التوسع شرقا، باعتبارها «بلا معنى».
ما بين ضغوط الداخل والخارج، شولتس بالتأكيد فى موقف صعب لا يحسد عليه، وأمام لحظة فارقة فى التاريخ الألمانى تطلب حقا الهدوء قبل اتخاذ القرارات المصيرية، ولا سيما مع تلويح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين دوما بشبح «السلاح النووى»، لكن يبقى حق الرأى العام فى معرفة أى الطرق تسلكه بلادهم.