عبد الصبور.. فارس قتلته الكلمات!
فى عام 1957، كانت الحياة الثقافية فى مصر على موعد مع قصيدة بحجم ثورة، وكلمات بحجم أمة، وصدق بحجم جرح:
«الناس فى بلادى جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء فى ذؤابة الشجر
وضحكهم يئز كاللهيب فى الحطب
خطاهم تريد أن تسوخ فى التراب
ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون
لكنهم بشر!».
إنها قصيدة «الناس فى بلادى» التى صدرت بديوان يحمل نفس الاسم لشاب انطوائى خجول، تحمل عيناه فى عمقها شيئا من الأسى رغم وسامته البادية وخصلات شعره المتموج.
شكلت القصيدة مفتتحا مهما للموجة الثانية فى تطور الشعر العربى والتى باتت تعرف بـ «شعر التفعيلة» بعد الموجة الأولى من الشعر الكلاسيكى والقصيدة العمودية بوزنها وقافيتها التقليدية. وأصبح اسم مؤلفها صلاح عبد الصبور «علامة جودة» يوضع إلى جواره اسما بدر شاكر السياب ونازك الملائكة للتأريخ لهذا التطور اللافت فى مسيرة ديوان العرب.
وبعيدا عن أهميته على المستوى الفنى التقنى، حمل الديوان أهم سمات المشروع الإبداعى للرجل فيما بعد، فهذا شاعر لا ينافق سلطة أو يغازل الناس العادية. إنه لا يتورع عن كشف الزيف والتحذير من عنف جارف يتوارى تحت السطح لكنه مستعد للانفجار إذا ما اختل بقوة ميزان العدالة الاجتماعية.
ما الذى جعل «عبد الصبور» المولود فى الثالث من مايو عام 1931 فيما بعد أكثر ميلا للحزن والأسى، تقطر مسرحياته الشعرية وقصائده ومقالاته شجنا وأسفا على حال البشر، ينظر للحياة من منظور شديد التشاؤم فلا يرى سوى اللاجدوى واللامعقول؟
هل هو تأثره بكتابات الكاتب التشيكى كافكا المغرقة فى سوداويتها أم لغرامه بمسرح العبث فى نسخته البريطانية كما نجد عند صمويل بيكيت؟ أم يعود الأمر إلى فتنته بشعراء الصعاليك العرب وسير كبار أعلام الصوفية التى لم تنصفهم الحياة مثل الحلاج وبشر الحافى؟
لا أحد يملك إجابة شافية، لكن المؤكد أنه فى الشعر توالت مؤلفاته «أقول لكم، تأملات فى زمن جريح، أحلام الفارس القديم، شجر الليل، الإبحار فى الذاكرة» لتضعه فى مكانة شديدة الخصوصية. أما فى المسرح الشعرى فأصبح مؤسسا لمدرسة متكاملة عبر أعمال مثل «الأميرة تنتظر، مأساة الحلاج، بعد أن يموت الملك، مسافر ليل، ليلى والمجنون».
حتى فن المقال الصحفى والتأملات النقدية والخواطر العابرة مارسها من مفهوم جديد يقوم على الصدق والبساطة والعمق بعيدا عن حذلقة المثقفين وكبار الكتاب وهو ما تجلى فى مؤلفاته النثرية مثل «على مشارف الخمسين، وتبقى الكلمة، حياتى فى الشعر، ماذا يبقى منهم للتاريخ، رحلة الضمير المصرى، وقراءة جديدة لشعرنا القديم». المدهش أن مبدعنا الكبير صاحب الفلسفة التشاؤمية له تجربة تعاون فنى مشهودة مع عبد الحليم حافظ، فقد التقيا على «مقهى الطلبة» فى مدينتهما الزقازيق حيث اتفقا على أن يغنى الثانى قصيدة من نظم الأول. وكانت النتيجة قصيدة » لقاء» التى ظهرت للوجود عام 1954، تلحين كمال الطويل والتى يقول مطلعها:
بعد عامين التقيناها هنا/ والدجى يغمر وجه المورد
وشربنا النور يخبو حولنا / وسبحنا فى هلال الموكب
ويظل رحيله المبكر فى 13 أغسطس 1981 يمثل علامة استفهام حائرة فى التاريخ الثقافى المصرى، فقد ذهب فى ذلك اليوم لزيارة صديقه الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى فى بيته بعد عودة الأخير من باريس. وهناك تعرض من فنان كاريكاتير معروف، لاتهامات تطعن فى وطنيته الذى كان يشغل منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب فأصيب بسكتة قلبية أودت بحياته على الفور، كما روت زوجته السيدة سميحة غالب.