عوامل كثيرة تحدد الوجهات التالية لهواة السفر والترحال، كحالة الطقس ومدى تقبل الآخر واختلافه، وكذلك المطبخ الذى تشتهر به تلك الوجهة، فالأصل فى السفر الاستمتاع والاكتشاف والعادات الغذائية جزء أصيل - بلا أدنى شك - من ثقافة الشعوب.
وعلى ذلك، قد لا تكون ألمانيا من بين الوجهات المحببة لراغبى السفر لأوروبا واكتشاف أطباقها. فالمطبخ الألمانى من بين المطابخ سيئة السمعة فى القارة العجوز، حيث لا يقوى على منافسة مطابخ أخرى ذائعة الصيت كالفرنسية والإيطالية، وحتى الاسبانية، إذ تشتهر أطباقه بكونها باهتة شاحبة اللون، تم تحضيرها على عجل.
الأسباب وراء ذلك متعددة، أولها يعود للطبيعة المتحفظة للألمان داخل مطبخهم، التى تفتقر للتجديد والتنويع المطلوب فى نوعية الأطباق المقدمة، لتجدها محصورة فى أغلب الأوقات بين البطاطس، واللحم المعد ضمن شطائر الخبز، المعروف عالميا باسم «الهوت دوج». فإن كان هناك نوع أو اثناى معروفان عالميا من الهوت دوج، فإن ألمانيا تضم منه مئات الأنواع، قدرها البعض بأنها تصل إلى أكثر من 1500 نوع، تضم جميعها اللحم بجميع أنواعه وأشكاله، والمعد بنفس الطريقة تقريبا، ليتم تناوله داخل الخبز، ومع البطاطس كطبق جانبى.وعلى هذا الأساس، حذرت دراسة ألمانية حديثة من خطورة العادات الغذائية للألمان، معتبرة أن معدلات استهلاكهم اليومية العالية من اللحم، تفوق ما يجب أن يحصل عليه الفرد فى أسبوع. وأشارت إلى أن خطورة الاستهلاك الزائد من اللحوم لا تكمن فقط فى اكتساب الوزن الزائد، الذى بات يعانى منه نحو 60% من الألمان، بل فى خطر الإصابة أيضا بالأمراض السرطانية.
سبب آخر وراء السمعة السيئة للمطبخ الألمانى، هو افتقاره لمنكهات الطعام، رغم عشرات المنكهات التى تدخل للأسواق بشكل شبه يومى، فغالبية الألمان لا يفضلون إضافة المنكهات إلى أطباقهم باعتبارها تضيف نكهة صناعية على الطعام غير مرغوب بها، ومن هنا جاءت سمعة أطباقهم الشاحبة، المفتقرة للمذاق.
بالإضافة إلى ذلك، فإن طبيعة الشعب الألمانى نفسه، الذى يشتهر بحبه للعمل وتقديسه لقيمة الوقت، زادت من تعقيد المشهد، حيث يعتبر كثير من السائحين، حتى دون المحاولة، أن المتعة التى يبحثون عنها فى الأطباق الجديدة المختلفة لن يجدونها لدى الألمان.وبالفعل، فإن الأطباق الشعبية ذائعة الصيت فى ألمانيا، ليست ألمانية الأصل، وترتبط بالموقع الجغرافى للولاية الألمانية. فالولايات الواقعة بالقرب من الحدود النمساوية مثل بايرن تشتهر بها الأطباق النمساوية مثل شنيتسل، وهى عبارة عن شرائح دجاج مقلى فى الزيت بعد إعطائه طبقة من البيض والعيش المقرمش، بينما تجد الأطباق الفرنسية حاضرة بالقرب من الولايات الغربية مثل بادين فورتمبيرج، كالمخبوزات والمعجنات باختلاف أنواعها. و تشتهر المأكولات البحرية فى الشمال، بالولايات الواقعة على بحر الشمال، مثل هامبورج.
أما على رأس المأكولات الألمانية التى تحولت خلال العقود الأخيرة لتكون الأكلة الشعبية فى البلاد، بغض النظر عن موقعها على الخريطة، فنجد الدونر كباب، الذى أدخله الأتراك معهم ألمانيا فى سبعينيات القرن الماضى، فى صدارة المشهد .
ورغم بساطة الوجبة، التى تشبه إلى حد كبير الشاورما فى بلادنا العربية، فإنها لاقت شعبية واسعة فى ألمانيا منذ اللحظة الأولى لولادتها فى العاصمة برلين، حيث تشير التقديرات الرسمية إلى أن الألمان يستهلكون يوميا نحو 550 طنا من الدونر كباب التركى، عبر محاله الـ 18500 المنتشرة فى كل أنحاء ألمانيا. ومع ذلك، لاتزال برلين العاصمة الحضرية لتلك الوجبة، حيث تضم وحدها نحو 1600 منفذ لبيع الدونر التركى. الغريب أن الدونر لم يجد فى بلاده الأصلية تلك الشعبية الجارفة التى حققها فى ألمانيا والتى دخلها بمحض الصدفة، حيث لجا إليها المهاجرون الأتراك كنوع من أنواع التكيف مع أوضاع معيشتهم الصعبة فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، التى كانت تنذر بترحيلهم من البلاد. الواقع المرير للمطبخ الألمانى دفع الكثير من شيفات البلاد للتمرد أخيرا، مقررين الخروج من عباءة التقليدية، والتمتع بقدر من الجرأة لمنافسة جارات أوروبا، حيث حاولوا الدمج بين الوصفات الألمانية التقليدية وأطباق أخرى أوروبية أو غيرها، لإعادة إنعاش المطبخ الألمانى، وهو ما انعكس بالفعل فى تقييم دليل ميشلان الأخير حول جودة المطاعم، لتقفز ألمانيا من المراتب المتدنية التى ظلت تحتلها لسنوات، إلى المرتبة الرابعة بعد فرنسا واليابان وإيطاليا، بقائمة كبيرة تضم 308 مطاعم.