أمام حوض المطبخ تقف منهمكة، تلملم الأطباق بلا تركيز، تبدأ عملية الجلي بكل ما تملكه يداها من طاقة، وكأنها وسيلة لإخراج غضب يتملكها، الماء منساب من الصنبور دون توقف، وفجأة كالعادة يحدث الانسداد في صرف الحوض، ويمتلئ بالمياه، وتحاول جاهدة تسليكه بالضغط بيدها علي مكان نزول الماء مرة وبأداة مطاطية مرة أخرى ، فيحدث انفراج بسيط يمرر الماء المحجوز ببطء، كانت قد طلبت منه كثيرا أن يصلح الصرف ويكشف عن البلاعة ويعالج الخلل، لكنه يسوف أو يرفض غاضبا؛ على أن ذلك من مهامها، تدخل صغيرتها فترى دموعها منهمرة وفكرها شاردا؛ فتنادي يا أمي : لا تبك من أجله، دعيه يذهب ، ولتأت بغيره يكون لطيفا كما رأيت في المسلسل الهندي، تنزل كلمات الطفلة على رأسها كأداة حادة يسيل بها نزيف من ذكريات الألم والخذلان، فضول نحوها، ورغبة مؤقتة في نزوة عابرة كانت هي محطتها، وشغفها للأمان ووهمها في الحب، قناع يسقط، و حقائق تصدم، محاولات تبذل، وجبن يسكنها، حسابات كثيرة تغل يدها، ومخالب تستشرف نهشها، صمت العاجز، أو انفجار عشوائي، كلاهما بلا جدوى، تخل مهين، ومساومات ظالمة. من جديد يحدث الانسداد فيفيض الماء، للحظة تكسر كمونها، فتحرك دفعا الثلاجة الكبيرة بعيدا عن غطاء الصرف، ترفعه، تمد يدها مغلفة بقفاز فتتحسس رواسب كثيرة صلبة، وأخرى عفنة، تنزعها بصعوبة وتخرجها جميعها؛ لكن تظل المشكلة ولا يسري الماء في مجراه، وقبل أن تستدير لتستعين بأداة تسليك أخرى ؛ تفاجأ بأشياء كثيرة كانت فقدتها تباعا، استقرت خلف الثلاجة، هذا قلمها المفضل كانت تخط به خواطرها، وهذه مفكرة تدون فيها وصفات الطبخ التي تتقنها، ومقص تقص به كل ما تعقد معها، مصفاة تحجز بها الشوائب، وقمع تقنن به الملء دون إهدار، وكارت به هاتف محل ورود، وهذا آخر إيصال دفع لصالة التدريب البدني، وغطاء معدني لامع ظهرت من خلاله تفاصيل ملامحها الجميلة، لملمت أشياءها، وتركت المكان على حاله ، وتسللت إلى غرفة مغلقة تحاول طرد ظلامها ببعض النور المتسرب من فتحات النافذة، أبصرت كتبا كثيرة لها نسختان، بجوار مقعد هزاز، كم تأرجحت عليه بأمانيها الساذجة، وفي زاوية جهاز تسجيل بجواره شرائط أغاني فيروز، وعلى الجدران لا تزال ظلال مرح وأوقات مسروقة، وهذه ملابس برائحة النشوة، وتفاصيل صغيرة لكيان ظنته يكبر، ويبقى،لكن المسيطر على المكان هو صقيع الغياب، وفجيعة التحول، ومن الخارج يعلو ضجيج ابنتها الذي غادره سؤال عن حاضر باسمه وصفته، غائب بكل أدواره، وبعد لحظة تحديق في المرآة، استعادت فيها ألفة مع الذات،وحسما كانت تخشاه،كنعامة أخيرا ترفع رأسها، هرعت ببقايا كبرياء، وبمزاج أكثر اعتدالا، وروح استعادت بعضا من الشغف، أمسكت الهاتف، أجرت اتصالا وبعد وقت جاء الرد متوقعا بفجاجة: نعم، ماذا تريدين؟ ردت بثبات :أنا أوافق على الطلاق.