«اقلبى الشبشب ده يا بنتى، حرام كدة» كانت جدتى ترتاب من الشبشب المقلوب على وجهه، ومن المقص المفتوح، أو أن تخطو أمى فى أوقات معينة من الشهر فوق الطعام، تنهرها بحزم «عليكى الدورة يا ناهد، كده حرام» وأشياء كثيرة غيرها لم أفهمها ظلت تثير حنقها، أتساءل باستنكار فى كل مرة ما تفسير هذا أو ذاك، فتخبرنى مرة أنها تجلب الحظ السىء، ومرة أنها حرام، ومرات أنه «مايصحش وخلاص».
ذهبت معها فى أجازة الصيف إلى البلد، كان بروز صغير قد نبت من صدرى تحت الملابس الشتوية دون استئذان والآن يحاول أن يخترق «الـ تى شيرت» الخفيف الذى أرتديه، يضايقنى ويخجلنى أن يراه الأولاد، فأجلس دائما ضامة ذراعى واضعة فخذيّ فوق بعضهما كأنى أختبئ بجسدى فيه كسلحفاة صغيرة، نظرت جدتى وهى تزم شفتيها أكثر من مرة، لم أفهم قصدها، قالت «خدى أما أقولك»، وهمست فى أذنى « نزلى رجلك، مايصحش كده».
احمرت وجنتاى خجلا، وفعلت ما قالت.
كان باب الدار مفتوحا طوال النهار، يمر أحدهم فيدخل ويسلم على الضيوف ويجلس ويشرب الشاى، أو يقول مسرعا «سامو عليكو» فيرد أخو جدى بعبارة سريعة كنت أسمعها هكذا «ساموحت الله وبركااااااته» لم يكن يعبأ لجملته كلها بينما يمد الألف كثيرا فى آخرها كعصا طويلة تلحق بالعابر الذى ابتعد توا، لتسلمه تحيته فى عجل.
بعد الظهيرة استأذن صبيان وفتاتان فى الدخول، فأذنت لهم زوجة أخى جدى، أنزلوا مشنات من على رؤوسهم مملوءة بالعسل والمش والفطير المشلتت الساخن، سمعت جدتى فجأة تقول بغضب غير مبرر «هشششش هشششش» نظرتُ ناحية الباب فوجدت قطا أسودا صغيرا وجميلا ينظر إلى مشنات الطعام، قطعت جزءا من فطيرة أمامى وأسرعت إليه أطعمه، صرخت جدتى «إوعاكى تأكليه، ده قط أسود» فسألتها بتعجب وما المشكلة، قالت بتلقائية «ابن الكلب ده زارنا يوم موت جدك» لم أفهم علاقة موت جدى بالقط، ثم إنه يستحيل أن يكون نفس القط، فقد مات جدى منذ ثلاثين عاما أو أكثر فى القاهرة. استسلمت لرأيها على أى حال، لأنى أعرف أن يقينها لن يتزعزع أبدا، مهما فعلت.
خصص أهل الدار غرفة كبيرة لى ولجدتى لنرتاح فيها من السفر، أخرجت جدتى الراديو الأحمر الذى أحضرته من آخر زيارة لها إلى مكة، ووضعته فوق طاولة خشبية، كان موعد حفلة الست، قالت «هاتى المحطة خلينا نسمع أم كلثوم «أتى الصوت من الراديو محملا برائحة جدى الذى لم أعرفه يوما لكننى قابلته فى حكايات جدتى كل ليلة. سألتُ جدتى «ليه القط الأسود جه يوم موت جدى؟».
قالت باستنكار «القطط السودا، نحس، كنت بطبخ البطاية اللى جابها جدك، رجع من شغله وسألته مش هتاكل ياخويا؟ البطاية استوت، فجأة ببص لقيت ابن الكلب ده واقفلى ورا الشباك، عرفت إن فيه مصيبة، دخلت أصحى جدك، لقيته.. «تسللت دمعتان حاولت أن تخفيهما ثم قالت من يومها بشوفه فى كوابيسى وأعرف إن فيه مصيبة هتحصل، القطط السودا جواها شياطين».
قالت الست «أغدا ألقاك، يا خوف فؤادى من غدى» تنهدت جدتى وقالت «آه ياخويا» كانت تناديه فى الحكايات وفى سريرتها وعلنها بـ «أخويا» كأنها حجاب شيفون يستتر تحته الحب كله والأشواق.
قبيل الغروب أتى أبناء الجيران يطلبون منى اللعب معهم، قالت جدتى «خدى بالك، العبى مع البنات بس، مابقيتيش صغيرة» لم أفهم قصدها فكل أجازة ألعب مع الجميع ما فارق هذا الصيف عن الذى يسبقه، ذهبنا نلعب ثم رأيت القط الأسود ينظر إلينا من بعيد فى حذر، بينما تتنقل باقى القطط حولنا فى حرية، اقتربتُ منه فقالت سماح «بتعملى إيه، ده شيطان» وقال حامد «اجرى بسرعة قبل ما يلبسك» بينما أمسك محمود وكان أكبرنا بحجر ألقاه ناحية القط ففر فزعا، وقال لى وهو ينظر إلى صدرى «القط ده هيجيبلك كوابيس بالليل».
سأل محمود «تلعبوا استغماية؟» فهتف الجميع «نعم» اختاروا سماح لتلاحقنا لأنها أصغرنا، اختبأوا جميعا فى بناية مهجورة، أخذنى محمود من يدى ووضع إصبعه على فمه فى إشارة لى لأصمت، قال هامسا «هوريكى مكان تستخبى فيه» فى غرفة بالطابق الثانى قال لى قفى هنا ثم وقف خلفى متظاهرا بالاختباء من البقية، بينما شعرت بشىء ظل يزورنى فى كوابيسى لسنين طويلة بعدها، ولم يزرنى القط الأسود مرة واحدة.