علاقة المشاهد المصرى بالسينما والدراما أشبه بمن ضيع فى الأوهام عمره!
على مدى عقود، صدقنا أن عمر الشريف وفاتن حمامة حبيبان نقيان فى فيلم "نهر الحب"، وهما فى واقع الأمر خائنان، هما وعمر الحريرى وفؤاد المهندس أيضا!
صدقنا أن عادل إمام ومحمود الجندى يحاربان الفساد فى «اللعب مع الكبار»، رغم أنهما كانا يتجسسان على تليفونات الناس!
صدقنا أن ميرفت أمين سبب «انحراف» عبدالحليم حافظ فى «أبى فوق الشجرة»، رغم أنها كانت على حق عندما رفضت طلبه المتكرر الاختلاء بها!
صدقنا دموع عبدالمنعم مدبولى فى «أبنائى الأعزاء شكرا»، رغم أنه كان يتصرف بأنانية، ويتفنن فى إفساد حياة أبنائه الشخصية بلا وجه حق!
صدقنا أن بطلة «الخيط الرفيع» تستحق العطف والشفقة، وهى التى اختارت منذ البداية أن تعمل «عشيقة» لرجل ثرى تقيم معه فى منزله «فطار وغدا وعشا»، ثم لأحد مرءوسيه!
صدقنا أن «حسين» و«رفعت» صديقان وفيان لـ«على» فى «رد قلبى» لمجرد أنهما قدماه للراقصة الخبيرة «كريمة»، لكى تساعده على نسيان حبه للأميرة «إنجى»!
وكله كوم ومشهد «البار» التقليدى فى السينما «كوم» آخر، فقد صوروه لنا فى مختلف العصور ركنا أساسيا فى المنزل، لدرجة أننا صرنا نتخيل أنه قطعة لا غنى عنها فى جهاز العروسين، كالصالون والسفرة و«النيش»، فلا يكاد يخلو فيلم من مشهد البار، والبطل وهو يحتسى الخمر، أو يطلب من زوجته أن تعطيه «كأسا»، وكأنه يطلب منها أن تحضر له «كباية مية»، بل إن هناك مشهدا فى فيلم «سكر هانم» يقول فيه حسن فايق ضاحكا لابنه فى الفيلم كمال الشناوى: «على فكرة شقتك حلوة قوى .. وعامل فيها بار يا خلبوص»!
حتى فيلم «الإرهابى» الذى قدم فيه لنين الرملي قصة المتطرف المنعزل عن مجتمعه، والذى يختبئ مضطرا فى بيت أسرة طبيب، وقدمها الفيلم على أنها الأسرة المصرية النموذجية، وجدنا أن «البار» فيها عادى جدا، وكل أفراد الأسرة يتناولون الخمر داخل غرف نومهم، وكأنه شاى باللبن!
صدقنا أفلام خالد يوسف التى «شرعنت» البلطجة، وبيع الأجساد، واقتحام السجون، وقطع الطرق، وسرقة سيارات الغذاء، ونفذنا كل هذا بالحرف فى يوم أسود ما طلعتلوش شمس، إلى أن بكينا لسنوات بدل الدموع «دم».
قبل «مدرسة المشاغبين» لم يكن التلاميذ فى مصر يعاملون مدرسيهم هكذا، وقبل «العيال كبرت» لم يكن الأبناء يعاملون آباءهم هكذا، ولكننا حولنا الخيال إلى حقيقة، وفعلنا فى مدارسنا وبيوتنا ما شاهدناه من «خيال» فى مدرسة «الأخلاق الحميدة» ومنزل رمضان السكرى، ثم ذرفنا الدمع بعد ذلك على انهيار التربية والتعليم! والأمر نفسه ينطبق على الأفلام الأمريكية، فقد ظلت لعقود طويلة تبهرنا بـ«رامبو» و«روكى» و«كوماندو» و«باتمان»، ثم انهارت الأسطورة الأمريكية كلها فى دقائق يوم 11 سبتمبر 2001 بهجمات خطط لها ونفذها أفراد عصابة تختبئ فى كهوف أفغانستان!
كارل ماركس قال إن «الرأسمالية ستجعل كل الأشياء سلعا: الدين والفن والأدب، وستسلبها قداستها».
إذن، كان الفن مقدسا، ورسالة، وضميرا، «كان»، ولكنه لم يعد كذلك، فهناك الآن المنتج الذى سيدفع، والجمهور «اللى عاوز كدة»، والزمن «اللى عاوز أكتر من كدة».
قضيتنا الآن ليست قضية فيلم جرىء أو مشهد سافل أو حوار قذر، أو خلاف فى الرأى بين فئة ترى الفن حراما والفنانين «ناس مش كويسة»، وفئة أخرى تستلذ بالخروج عن المألوف و«تنشكح» بأى خروج عن المألوف باسم الحرية والإبداع والليبرالية، ولكن القضية أكبر من ذلك بكثير.
القضية قضية فن تغير، وفنان تغير، ومنتج تغير، وجمهور تغير، وأخلاق تغيرت، وزمن أيضا تغير.
ما كان فنا أصيلا فى السابق، ينظر إليه الآن على أنه «رجعية» و«تخلف» و«جمود»، وما نراه اليوم فنا وكان يستحق عمل قضية آداب له فى عصر مضى، صار فى زمن النت والموبايل والمنصات رسالة وإبداعا وخروجا عن المألوف وكسرا للقيود وحجرا فى ماء راكد.
نحن الآن فى زمن الحقيقة فيه أوقح من أى خيال يقدمه فن.
زمن «مش عاجبك ما تتفرجش»، زمن جمهوره ومنتجوه يفكرون بعقلية أبطال "فيلم ثقافى»، بالضبط، ولن يهدأوا إلا عندما يقدمون لنا فيلم «بورنو» بالكامل على أنه «فن»، وساعتها، لن يكون فى وسعك ألا تشاهده إلا أن تكون ميتا، لأن مجرد الاعتراض ليس من حقك، وسيوصمك بالتخلف!
.. الحقونا بـ«الممر 2» و«الاختيار 3» أرجوكم!