تعيش الضفة الغربية المحتلة بمناطقها الثلاث، والقدس الشرقية خاصة واقعا يزداد قتامة يوما بعد آخر. مشروعات الاستيطان التى أعلن عنها لبناء أحياء ومبان فى خمس مناطق فى القدس الشرقية بهدف اقتلاع الوجود العربى الفلسطينى تمثل تطورا خطيرا بكل المقاييس. الآن ترفع صرخات أحياء الشيخ جراح، وباب العامود، وبيت صفافا، وبيت حنينا، وصور باهر، من تلك المشروعات الاستيطانية، الهادفة الى تحويل منطقة الحوض المقدس إلى تبعية صهيونية بالكامل وهدم المعالم العربية كليا، تفريغ القدس الشرقية ومساحات واسعة من شمال وشرق الضفة الغربية المحتلة من سكانها الفلسطينيين الأصليين، بغية منع تواصلها مع باقى مدن وقرى الضفة الغربية المحتلة، فضلا عن جمود المفاوضات وإنكار الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية لمبدأ حل الدولتين، واعتباره مبدأ غير قابل للتطبيق، والاكتفاء بتحسين نسبى وهزيل للوضع الاقتصادى الفلسطينى فيما بقى من أراض وقرى ومدن للفلسطينيين، يطرح العديد من التحديات والإشكاليات لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء، مع اختلاف فى درجة وعمق التحدى الذى يواجهه كل طرف على حدة. عمليات الاستيطان الرسمية يواكبها ارتفاع هائل فى درجة العنف والوحشية التى يمارسها المستوطنون فى ظل حماية الجيش والبوليس الإسرائيلى ضد القرى الفلسطينية، عبر حملات دهم منظمة تحدث فى ساعات الليل المتأخرة،للمنازل والورش والمزارع، وتخريب الممتلكات والأثاث والسيارات ومعدات الورش بصورة همجية، فضلا عن الاعتداء على أصحابها بالضرب المبرح، وإحداث الإصابات الخطيرة عمدا به، رجالا ونساء وأطفالا. وتشتمل تلك الحملات الهمجية على بناء أسوار من الاسلاك الشائكة على مساحات من الاراضى الزراعية الفلسطينية، وهدم ما فيها واقتلاع اشجار الزيتون منها، واعتبارها مشروع مستوطنة دون أن يتحرك البوليس الاسرائيلى لوقف تلك الأعمال الإجرامية، فى تصرف يعكس تكامل الأدوار بين هؤلاء المستوطنين والجهات الأمنية الرسمية تطبيقا لسياسة الحكومة بمد الاستيطان الى أوسع المساحات المحتلة وزرع البؤر الاستيطانية فيها، وإفشال أى إخلاء قد تتطلبه تسوية تاريخية مع الفلسطينيين لاحقا.
مقابل الإفراط فى الاستيطان بغير حق، يتم التضييق على الفلسطينيين فى البناء، وحرمانهم من الحق فى السكن. ومن يبنى منزلا على أرضه لإيواء أسرته، يُجبر لاحقا وبعد إتمام البناء على هدمه بحجة انه لم ينل تصريح بناء من البلدية الاسرائيلية، وإن لم يهدم بيته بيده، يُكلف مئات الآلاف من الشيكلات بحجة أنها تكاليف الهدم الرسمية.
وتمتد تصرفات المستوطنين الهمجية إلى تنظيم عمليات اقتحام للمسجد الأقصى تحت حماية الشرطة. وكشفت تقارير إسرائيلية عن قيام جمعيات المستوطنين بتدريب أعداد كبيرة منهم لاقتحام المسجد الأقصى مرتدين الزى العربى، حتى لا يتم اكتشاف نواياهم، ويسهل دخولهم بمجموعات كبيرة، وأداء الطقوس التلمودية فى الجزء الشرقى منه، وإثبات ما يدعونه حقهم فى الهيكل المزعوم، وحقهم فى الصلاة فى أى وقت وفى أى مساحة من المسجد. وكثيرا ما طالبت السلطة الوطنية الفلسطينية ما يعرف بالمجتمع الدولى أو الأوروبيين بالوقوف ضد هذه السياسة ولعب دور إيجابى فى منع التهويد والاستيطان فى الاراضى الفلسطينية المحتلة عامة، والقدس الشرقية خاصة، وكثيرا أيضا ما صمت المجتمع الدولى وأغمض عينيه رغم كل ادعاءاته الفارغة حول حقوق الإنسان والعدل والسلام. هذا الواقع المؤلم بالنسبة للفلسطينيين، شعبا وسلطة وحركات وطنية قومية وإسلامية، وإن شكل بالنسبة لإسرائيل رصيدا فى الاستيلاء على الارض الفلسطينية المحتلة، يضعها فى مأزق تاريخى يبدو أن تيار اليمين الصهيونى المتطرف الحاكم لا يدرك أبعاده وتأثيراته على المديين المتوسط والبعيد. فمن جانب يمثل إنهاء الحل التاريخى وفقا لصيغة الدولتين نوعا من الاقتراب إلى صيغة الدولة الواحدة ذات القوميتين، وهو ما يعنى بالضرورة إنهاء المشروع الصهيونى ذاته. وكأنهم يهدمون ما يبنون بأيديهم.ومن جانب آخر، فإن فكرة تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها هى بالفعل نوع من الجنون ولا يتصور النجاح فيها مهما تكن الضغوط والإهانات وحملات الإذلال، واعتقال الشباب والرجال والنساء وزرع المستوطنين وبناء الأسوار وتفكيك الطرق بين القرى والبلدات الفلسطينية. بل إن بناء الأسوار لحماية المستوطنين ومنع انتقال الفلسطينيين بصورة طبيعية بين بلداتهم وقراهم ومزارعهم، يعنى عمليا أنه لا يمكن التخلص من الوجود الفلسطينى، كما أن فرض العزلة الأبدية عليه وتحقيق الفصل التام بين شعبين فى مساحة جغرافية واحدة هو تطبيق عملى للفصل العنصرى البغيض، الذى مهما يطل أمده فهو زائل لا محالة، ولدينا مثل دولة جنوب إفريقيا التى نالت الحرية والمساواة بعد نضال طويل وصعب ضد واحد من أعتى أنظمة الفصل العنصرى عبر التاريخ كله. لن يعدم الفلسطينيون سبل المواجهة والكفاح. تجربة العمل السياسى منذ أوسلو كمسار للحرية والاستقلال تواجه عقبات كبرى، وكثير يزدادون يوما بعد آخر يشعرون بقدر من الإحباط واليأس وضرورة تغيير المسار. عمليات الدهس والطعن وإطلاق الرصاص على المستوطنين التى يقوم بها شباب فلسطينى، ومنهم فتاة فلسطينية فى ريعان الشباب لم تتوان عن التعبير عن غضبها وطعنت إحدى المستوطنات، وبالرغم من اعتقال بعضهم، وكونها عمليات فردية حتى اللحظة، لكنها تكشف عن حجم السخط والغليان الذى يموج بين الأجيال الصاعدة، التقارير التى تتحدث عن كثرة السلاح فى المناطق الفلسطينية فى الضفة، وعن حوارات بين الشباب تتم فى سرية قدر الإمكان بغرض تشكيل مجموعات مسلحة، لا تتبع أيا من الحركات الفلسطينية السائدة على الساحة، لمواجهة الاحتلال تؤشر إلى تفاعلات مهمة مقبلة غير قابلة للسيطرة سوف تتسع يوما بعد آخر. اليأس من قدرة السياسيين على التغيير وضمان الحقوق المشروعة يصب حتما فى انفجارات وانتفاضات ومواجها تتغير قواعد اللعبة رأسا على عقب، والمستقبل ملىء بالمفاجآت.