عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
سحر المكان والزمان فى أدب محفوظ
12 ديسمبر 2021
د.هالة أحمد زكى


ليس هناك أفضل...من تلك الحدائق الصغيرة التى كانت تجاور المشربيات والأسبلة ومساقى الدواب، حيث رائحة الريحان والنعناع المرغوبين فى حى الحسين والجمالية، ولا أجمل من بيوت القاهرة التاريخية التى عاشت تحت زرقة سماء صافية تطهرها وتنسبها إلى المحروسة نفسها بعيدا عن زمن المماليك أو «العثمانلية» أو حتى الأيوبيين أو الفاطميين.



ليست المسألة حاكما ومحكوما بقدر ما هى مشاهد تفصيلية لبيوت وبشر عاشوا بين الأزقة والحوارى التى تبدو بخيالها متسعة وإن ضاقت وسط جلسات الرجال، ونداءات الباعة، وهمس النساء، وصيحات الأطفال وصوت جهورى أجش لفتوة يفرضه على أنين حرفوش، وعصا ترفع إلى أعلى يراها القاصى والدانى فيخشع لسلطة من يملك الحارة.



عالم جميل متميز يحمل صورة الحديقة التى طالما استوقفت كاتبا كبيرا مثل بهاء طاهر، وصورة عالم الفتوات والحرافيش أو القوة الفاعلة ومحركى الأحدث الذين توقف عندهم الدكتور صلاح فضل.



لا يعنى هذا أن هناك تواردا فى الخواطر، أو أن بهاء طاهر أو صلاح فضل وضعا المشهدين معا ليريا هذه المفارقة. ولكنه نجيب محفوظ ابن حى الجمالية والذى يمر على مولده ١١٠ أعوام كاملة ومع هذا لم تنته حكاياته.



حواديت القاهرة



مازلنا فى حى الحسين والجمالية وسط توهج مشاهد وأحداث روايات عاش أبطالها فى مساحة جغرافية صغيرة حتى أنهم أحيانا لا يكادون يصلون إلى رمال الصحراء عند حدود العباسية أو يقتربون كثيرا من قاهرة وسط البلد.



يكفى هذا، فلكل كاتب مساحته التى يتحرك فيها، فمن قبل اختار كتاب آخرون الصحراء والريف والشوارع الخلفية ليسمحوا لأقلامهم بالتجوال هنا وهناك معبرين عن مواهبهم وأفكارهم.



ولكننا حتى لو توقعنا من محفوظ أن يصول ويجول فى حارته فى زمن الفتوات، فإنه يفاجئنا بتمسكه بالمكان مع امتداد الزمان، فحكايات الجمالية والحسين قد تمتد وتصل إلى زمن بدايات القرن العشرين الذى ولد فيه محفوظ نفسه بل وتعايش ثورة ١٩١٩ التى اعتبرت قمة السطوع الوطنى فى تاريخ أهل مصر.



لم يرد محفوظ أن يقفز بقلمه بنفس الرؤية من زمن الفتوات إلى أيام مولده وشبابه. فلكل مقام مقال وحديث وحكاية حتى لو دارت فى نفس المكان.



والانغماس فى تاريخ الحارة الخاص والمميز لا يعنى بأى حال مخاصمة الحاضر بمنطق المفاضلة. وهو نفس المبدأ الذى تعامل به مع شخصياته التى لم تكن مجرد صدى ضعيف متواضع لخبرات محفوظ فى الحياة.



كل الشخصيات واضحة وثابتة الملامح لا يتم التعامل معها بمبدأ انتقائى، حيث يبحث أى كاتب عن شبيه له بين الشخصيات فيرفع من قدره، أو يأتى بآخر ويصوره فى صورة تختلف عنه، فيبدأ فى لومه ومطاردته فى سرده بكل النقائص وتحميله كل الأخطاء.



لم يكن كمال مثلا أحد أبطال الثلاثية هو سيد الأحداث لمجرد أن الكاتب أشار يوما إلى أنه يشعر أنه يحمل نفس ملامحه. فكل شخصيات الثلاثية حاضرة لا تعرف التقسيم التقليدى بين شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية، والكل يعايش الكثير من التطورات الاجتماعية والسياسية التى عرفها بر مصر. وليس من بينهم ذوو صور باهتة أو أحداث مقحمة تتوارى وراءها حيل التخفى التى يتقنها الكاتب.



الجميع يتحرك ويتفاعل مع الحياة، كل على طريقته ويستطيع أن يبدى دفوعه ومبرراته ورؤيته التى تجعلنا كثيرا ما نتعاطف مع بعض ما يفعل و يقدم.



وربما لهذا لم نشعر ونحن فى زمن ثورة ١٩١٩ ان المكان يصدح بأقوال وعبارات لسعد زغلول، رغم أن الرواية تحمل فى أعماقها تعاطفا وفديا يشعر به معظم جيل نجيب محفوظ.



هذا ما يصنع كاتبا متميزا، ولكن المفاجآت لا تنتهى، فالجمالية التى توقف عندها محفوظ فى الثلاثية وزقاق المدق وخان الخليلى وغيرها، لم تكن إلا حلقة فى عقد فريد. فقد انتقل بثقة وثبات يكتب عن أحداث عايشها، واستطاع بمرونة أن يتحرك بالمكان إلى العباسية ووسط البلد والإسكندرية، ومعها تنقل بالأحداث والمواقف وحتى التنبؤات، وليواكب مصر التى خبرها منذ الأربعينيات حتى آخر يوم قدر له فيه أن يكتب.



فظهرت روايات تحمل أحلاما واعباء وتنبؤات بل ومخاوف فى «السمان والخريف» و»المرايا» و»ثرثرة فوق النيل»، كتعبير عن حالة التواصل بين الكاتب وبين ما يجرى فى بر مصر.



كل هذا يمكن أن يبدو مفهوما، فقد قدم محفوظ عالمه الخاص ثم ذهب يكتب عن كل ما يحدث حوله. يمكن قبول هذا مع آخرين، ولكن مع محفوظ يبدو أن روايات بعينها لا تستطيع أن تنقلنا برفق وأمان إلى عالمها شديد العراقة والتشبع بكل ما هو مصرى فريد. فمحفوظ نفسه هو من تتبع فى بداياته أزمنة أقدم وأبعد، فكانت «عبث الأقدار» و»كفاح طيبة» و»رادوبيس».



وهى أعمال لم تحمل فى طياتها مجرد سرد لوقائع تاريخية بقدر ما كان حرصا على اختيار زمن عاشت فيه مصر تجارب فارقة بين الاستمرار أو الانطفاء، وبين القدرة على اجتياز الصعاب أو التعثر.



عرف محفوظ أن مصر عاشت أكثر من مأزق وأنها كانت تملك الحل والحكمة منذ زمن بعيد. ولهذا ترك كل الخيارات التقليدية بين اختيار زمن بعينه، أو الظهور فى هيئة المؤرخ أو حتى الراوى. واستفاد بكل الأوراق المصرية من عادات وتقاليد ومفاهيم وحكمة حتى يقتبس من نورها هذا البناء الهندسى الفخم الذى التزم به، فأصبح من المقبول أن يكون عبقريا وهو يبحث عن فلسفات عميقة فى أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة، أو حتى يصف جلسة على مقهى مع فنجان قهوة ونرجيلة.



فالمسألة ليست مشهدا أو زمنا بعينه، ولكنها تتبع لقصص بر مصر، التى لا تنتهى فصولا، والكاتب بهذا الكيان لا ينسى ولا يتوارى طالما أنه فهم وعرف وكتب بقلب وعقل مصرى. فكان حضرة المحترم...كاتبنا نجيب محفوظ.