عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
حارس ثلاجة الموتى
10 ديسمبر 2021
رابعة الختام


برودة «طوبة» لم تكن تنقصها برودة تضاف إليها، وحده شهر طوبة يقوس عمودها الفقرى، ويضيف لعمرها سنوات تجعلها تبدو كعجوز بدينة من فوق كومة الملابس والأحجبة وأغطية الرأس التى تتدثر بها.



لكن تلك البرودة المنبعثة دائما من تحت عقب باب تلك الثلاجة اللعينة التى يحرسها «راغب»، تزيد برودة الجو وتبعث فى نفسها رهبة مقيتة، رائحة نتنة تنبعث منها، تزكمها برغم كمية الفورمالين الكثيرة التى يحقنونها ويسكبونها فى أوردة وشرايين تيبست.



تراقبه بشغف من خلف زجاج نظاراتها الطبية السميكة، تخفى نظرة عينيها إليه وهى تدس رأسها فى كتلة الأوراق المرصوصة على مكتبها بالمستشفى.



لا تعرف كيف يجرؤ هذا الراغب فى الحياة، المستمتع بها، على المكوث بهذا المكان طويلاً، كيف يتناول طعامه بعد أن تملأ عينيه وأنفه تلك المشاهد الصادمة والروائح الكريهة؟



تمنيت كثيراً ان أستخرج شهادة ميلاده وأغير اسمه من راغب إلى رافض، وربما كاره، شيئ من هذا القبيل، شىء من رفض صامت، خانع.



كيف لهذا المسكين أن يذهب كل مساء إلى بيته يشاهد التلفاز ويستمتع بحياته؟ وكيف تمد زوجته يديها إليه بالطعام ويجلسان معاً، يتسامران سوياً، يحتسيان الشاى الأخضر، ويغطان فى نوم عميق؟



هل يستمتع بمذاق الحلوى الطرية؟، كيف يشم رائحة الكنافة السورى على الفحم وهى تشبه رائحة شواء لحم أحدهم، جاءه جثة متفحمة لم يكتشف أحد معالمها وظل فى درج بارد بثلاجة مشرحة المستشفى أربعة أيام إلى أن أمر الطبيب بدفنه فى مقابر جماعية، مجانية أعدت خصيصاً لهؤلاء الغرباء، مجهولى الهوية.



فى ليلة فرحه رأى «راغب» عروسه مخضبة بالدماء، لم يكن يعرف أنها حناء يوم العرس، ومساحيق الفرح والجمال، لم يعتد أن اللون الأحمر يصلح لغير الدم، مال عنها مبتعداً أطلق ساقيه للريح، كان يجرى ولا يعلم إلى أين يذهب، فجأة دون وعى وجد نفسه داخل ثلاجة الموتى، فتح أحد الأدراج وراح يغط فى نوم عميق، وأصوات الفرح هناك فى السرادق تخفت، الجميع تعجبوا من إختفائه المفاجئ، بحثوا عنه فى كل مكان دون جدوى، والهواء البارد يتسرب من تحت الباب فى المستشفى الكبير.



طأطأت رأسها وأرجعت حجاب الرأس إلى الوراء قبل أن تصرخ فيهم ليكفوا عن تكهناتهم الذكية المتفلسفة وهم أصحاب العقول البليدة، لم تنشط أدمغتهم إلا حين وصموا الرجل وعروسه بأبشع الصفات، خلعوا عليه من التهم ما لا يليق.



عرفت خالته العجوز بالخبرة والتجربة أنه راح يرتاح من ضجيج المزيفين ليرتمى فى أحضان الحقيقة الوحيدة الثابتة، أراح عقله وسط الموتى بلا زيف. أعادته العجوز لعروسه، وحين تشمم رائحة المسك تفوح من بين مساماتها أيقين بأن هناك روائح أخرى أكثر جاذبية ونداوة من رائحة الموت، أدمن روائح ذكية لا تشبه رائحة تعفن الجثث.



تغيرت نظرته للحياة بسماع ضحكة لا تشبه صراخ أهالى الموتى والمفقودين، اطلقها ابنه الصغير من لفافته البيضاء بعد أسابيع من ولادته، وأضاءت الابتسامة وجهه نوراً بتسلم شهادة ميلاد «نور» ابنته الثانية، نسى الموتى ورائحتهم.



خرج مبكراً هذا الصباح ليطلب من مدير المستشفى إعفاءه من حراسة الموتى، من مشاهدة الجثث المتعفنة، أراد رؤية الأحياء وتحويل بوصلته إليهم، لا يريد أن يقضى بقية حياته هنا، ميت بلا شهادة وفاة.



أدار الدكتور كرسيه الجلد الضخم عدة مرات محملقاً فى سقف الغرفة قبل أن يدق هاتف مكتبه ويطلب من راغب التحرك سريعاً نحو المشرحة فثلاجة الموتى يجب أن تستعد لاستقبال حالات طارئة لأتوبيس رحلات لأطفال مدرسة إبتدائية صدمتهم شاحنة على الطريق السريع.



راح يتمتم وهو يتمشى فى طرقة المستشفى: ربما تكون مرة أخيرة يا راغب وبعدها ينظر المدير فى طلب تحويلك.



يرد على نفسه: أولادى يتأففون من مهنتى أمام زملائهم بالمدرسة، يخافون يداى وهى تحمل لهم الحلوى اللذيذة، ظل عقله يتحدث، وهو يخبر نفسه بأنها مرة أخيرة ليس أكثر.



لساعتين يتم نقل الأطفال وعربة الإسعاف تجاهد فى عملها، وهى تراقبه من خلف نظارتها الطبية وكومة الأوراق تخفى نصف رأسها، تشب بنصفها العلوى من خلف مكتبها الخشبى، تميل بجزعها المكتنز بالشحم وعمال المشرحة تفجعهم مشاهد الأشلاء، والأهالى يتجمهرون حول المستشفى لتسلم أبنائهم، وهاتفه الجوال يرن فى غرفة الطعام، لم ينتبه لاتصال زوجته، كان يعمل بحماسة المرة الأخيرة فى الواجب الإنسانى المقدس، تمرن على التعامل مع الجثث بلا مشاعر، مجرد عمل، دمى منزوعة الحياة يحركها يمنة ويسرة.



كانت فردة حذاء أحمر وحيد فى قدم طفلة تغطيه الدماء وضفيرة شعر كستنائية لا يمكن تجاهلها، لا يمكنه التعامل معها بلا قلب، أزاح الدماء من فوق الوجه الممزق بقطع الزجاج، ونظر للخاتم الذهبى فى إصبعها الصغير، كانت «نور»!!!



هى!.



عقله يصرخ.. هى!



قلبه يرفض، يتساءل.. هى؟



كيف يخطأ فى لون الحذاء الذى اختارته منذ ثلاثة أيام للرحلة؟.



ضربات قلبه تتسارع، يكاد القلب يقفز من بين الضلوع، اتساع قفصه الصدرى يرى بالعين المجردة، يعلو صدره ويهبط، تجحظ عيناه تهرول من محجريها، تتثلج أطرافه، تأكلها برودة مباغتة رغم حرارة جسده وإحمرار وجهه، جمع كل متناقضات العالم فى تلك اللحظة، هبت عليه رياح عاصفة، كل فصول السنة تكالبت على رأسه.



بقايا الملامح فى هذا الوجه الذى يعشق تفاصيله انطفأ نورها للأبد، احتضنها بشغف أعاده للحظة ميلادها وضمتها الأولى، ظل يبكى ويصرخ، فتح باب أحد الأدراج وأخذها فى حضنه ضمها بين ضلوعه، كاد يعتصر بقايا الجسد فى ضمته الأبوية الحانية، خاف أن يقلقها الظلام. كان يبكى بحرقة، ويغنى لصغيرته، يهدهدها بعذوبة ووجع، حتى تهدأ روحها.



لمح عامل باب ثلاجة المشرحة موارباً، أغلقه من الخارج بالمفتاح العملاق ونزوى فى حجرته يشعل مدفأة صغيرة تحميه برد الشتاء القارس، ومذيعة القناة التليفزيونية الرسمية تطل بعينيها «الزجاجية» الملونة، الباردة، تتلو بصوت رخيم ووجه ثلجى محايد خبر تحطم أتوبيس رحلات تحت عجلات شاحنة عملاقة.