عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الشرق فى مرآة ديلاكروا
27 نوفمبر 2021
سـناء البيـسى


عشرات مئات الآلاف من الأشقاء المغاربة يهرعون الآن إلى متحف محمد السادس للفن المعاصر فى مدينة الرباط لمشاهدة أكثر من 80 لوحة، من أعمال الرسام الفرنسي يوجين ديلاكروا الذى خلد المغرب منذ 190 عاما، بلوحات حملت لمسات من مخيلته وذاكرته الفنية.. المعرض يضم إلى جانب اللوحات التاريخية بعضا مما اقتناه الفنان خلال رحلته الشرقية، من سيوف وملابس وأوان خزفية يعد كل منها مرجعًا وثائقيا للعادات الشعبية وتفاصيل الحياة اليومية علي أرض فاس ومكناس وأصيلة وطنجة والرباط.. وصافى وعيّط عليا ومزروب والزنقة وبوصطا ومشمش وكيفاش والقفطان والشمام بطيخ والبطيخ شمام..



كان فيرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا «1798 - 1863» من أوائل الفنانين الذين أصابهم الشرق بلفحة دفئه، وقبس من طلعة الشمس المضيئة ألوانه، فكان للبهاء الشرقى وسحره مستقر في صميم أعماقه وأعماله.. في مسيرة حياته كانت للموسيقى والأدب بصمات واضحة؛ حيث درس الموسيقى قبل التحاقه بمرسم الفنان «بول جيرين»، وحرصت أسرته البرجوازية العريقة، التى كان نفوذها واسعًا فى منطقة «سان موريس» بالقرب من باريس، على إلحاقه بأرقى مصادر الثقافة والفن تبعًا لتقاليد الأسرة، حيث كان والده «شارل ديلاكروا» وزيرا للخارجية ثم محافظا لمدينة مرسيليا، ومن بعدها بوردو.. وبعد وفاة الأب فى عام 1805 انتقلت العائلة إلى باريس لترحل الأم في عام 1814م ليتدهور حال أولادها المالى، إلى حد أن قام الابن الرسام ــ كى يعول الأسرة ــ بنسخ أعمال كبار فنانى متحف اللوفر، وبيع النسخ، ومنها أعمال «رافائيل» و«روبنس» والإسبانى «جويا»، وكان ديلاكروا منذ بداية عمله بالفرشاة مفتونا بجموح ووحشية الحيوانات، ولطالما أثارت اهتمامه بشكل خاص الخيول وحركاتها وصراعاتها قبل ترويضها، وهو ما رآه رأى العين أثناء زيارته لشمال أفريقيا، وقد رسم العديد من اللوحات من وحى إقامته فى المغرب، حيث صوَّر فيها مظاهر من صراعات الحيوانات وبعضها، وصراعها مع الإنسان، وفى هذا السياق نرى لوحاته الشهيرة «أسد يهاجم حصانا» و«صيد الأسود» و«عرب يتقاتلون فى الجبال»، حتى تبنَّى النقاد رأيًا طريفًا يقول بوجود شبه بين ملامح ديلاكروا والأسود، فقد كانت عيناه تشعان ببريق أخاذ، كما كانت عظام وجهه ناتئة، وكان الشاعر «بودلير» من أشد المعجبين بتلك اللوحات حتى إنه وصف لوحة «صيد الأسود» بأن فيها تفجرًا للألوان يثير مكامن الأحاسيس الدفينة، كما لو أنها تزأر وتزمجر كالأسود، وكتب بودلير عن الوجود النسائى فى أعمال ديلاكروا نصًا يمكن اعتباره من أكثر النصوص قربًا من روحية أعماله، كمثل قوله بين السطور: «بشكل عام لا يصور ديلاكروا نساء جميلات من وجهة نظر الناس العاديين على الأقل، وإن بطلات ديلاكروا تقريبا يجدر وصفهن بالسقيمات العليلات المصدورات، لكنهن يشععن بنوع من الجمال الداخلى لا يدانيه جمال آخر صارخ، وديلاكروا لا يعبِّر عن القوة من خلال رسم العضلات أو الأنوثة الطاغية، بل عن طريق ما تتركه رسومه من زخم فريد من التوتر يُلهب الأعصاب يصحبه الألم المعنوى الروحى، ومن هنا لابد أن نلاحظ كيف أن الكآبة القصوى تبرق لديه في الألوان، فى الكتل اللونية، الفسيحة، الكثيفة، كما هى لدى الرسامين العظام، لكنها أيضا تبدو شاكية وعميقة، كما فى ألحان الموسيقار «فيبر».. ومثلما تأثر الشعراء والأدباء بأعمال ديلاكروا، فالشعور كان متبادلا، حيث كان تأثير شكسبير عليه بالغا، حتى إنه أنجز فى عام 1839م وحده ــ بفعل تأثره بأعمال شكسبير ـ أكثر من 16 عملا «بالحفر»، تمثل هاملت فى أوضاع مختلفة، وقام بعدها برسم العديد من الشخصيات الشكسبيرية فى سياق استلهامه لدانتى، واللورد بايرون، وحكايات التاريخ القديم، وكذلك استلهامه لمشاهد الشرق، كذلك قام برسم عدة لوحات لصديقه الموسيقار الألمانى فريدريك شوبان كل ذلك شكل له مخزونا رومانتيكيا طبع مجمل أعماله، وإن كانت جميعها لا تبحث عن محاكاة حقيقية، لأن المحاكاة معيار مزيف والأساس فى رأيه هو ما تحمله مخيلة الفنان التى من خلالها يرى في الأشياء ما لا يمكن للآخرين أن يروه.



وكانت معرفة ديلاكروا بنجمة المسرح «مارس Mars» فاتحة خير وفير عليه في مسيرة عمله الرومانسية، حيث قدَّمتْه إلى الكونت «مورنيه Mornay» الذى كلفه الملك لويس فيليب Louis philippe بوظيفة سفير فوق العادة لدى السلطان عبدالرحمن، ورغب السفير فى اصطحاب رسام معه، وكان سبب الزيارة أن فرنسا احتلت الجزائر منذ وقت قريب، وتريد التأكد من حياد المغرب؛ فالعصيان يتأجج فى جبال وهران، وقد زار وفد من القادة العرب السلطان عبدالرحمن لإقناعه بنصرة ثورتهم، ولذلك كانت مهمة السفير تهدئة مخاوف السلطان من فرنسا، وعقد معاهدة حُسن جوار ومسالمة مع المغرب.. وشقت السفينة «لابرل» عُباب البحر لتلقى مرساها فى 24 يناير 1832م فى خليج طنجة، المدينة البيضاء؛ إحدى بوابات الشرق، والشرق كان بالنسبة لديلاكروا مكانا بعيد المنال، حيث الثمار البديعة البعيدة، والعالم المبهم الأسطورى، وقد كان حلم ديلاكروا زيارة إيطاليا مهد الثقافة الأوروبية، ولكن ذلك الحلم لم يتحقق له أبدًا، والآن أتى الشرق ممثلا فى المغرب يفتح له ذراعيه ليستقى ويرتوى بسحره، ويكتب الفنان فى مذكراته عن استقبالهم فى موكب عظيم: «كان استقبالا حافلا، كما أمتعنا مضيفونا بموسيقى عسكرية لها وقع جديد على الأذن»، وفى أثناء انتظار السفير الفرنسى موعدا لملاقاة السلطان بعد شهر رمضان، أخذ ديلاكروا فرصته فى التجول بمدينة طنجة، غير واضع فى الاعتبار ذلك الارتباك الدبلوماسى للسفير، وقد قاده دليله وترجمانه «بتشيمول» فى متاهات الأزقة التى شدت انتباهه بعبقها المميز، وشق له الطريق بين جموع السكان الذين يرتدون البرانس الملونة: «أنا الآن مثل امرئ يحلم ويرى أشياء يخاف أن تفلت من بين يديه»، ومع تجنبه الوقوع عن ظهور البغال التى يركبها بكثير من الصعوبة، وأيضا بين معروضات الباعة المقرفصين فى الطرقات، تجرع ديلاكروا حتى الثمالة مشاعر وصورا ولقطات جديدة، حيث بدا له الشارع نهرا ومعينًا لا ينضب من الإلهامات: «توجد وفرة من الموضوعات المثيرة، فى كل خطوة من حولى وأمامى وورائى وعلي الجانبين لوحات حياتية جاهزة يمكنها أن تصنع ثروة ومجدًا لعشرين جيلا من الرسامين»، وتسهم ثقافته الفنية الواسعة فى توجيه نظرته إلى الحياة، فمذكراته ورسائله تقتبس استشهادات من العالم التصويرى الذى يسعد بمعرفته: «لقد رأيت مشهد الخيول المتصارعة.. إننى على يقين من ذلك، كل ما أمكن وما لم يحلم به (روبنز) من روعة وخفة وجلال هنا من حولى بكثافة، إنه بلد الزخم الفنى الأصيل». ويؤكد ديلاكروا فى مكان آخر من كراسة المذكرات والمشاهدات: «كل جزء فى هذا البلد يُعد ــ فى نظرى ــ موطنا للجمال، ومدرسة للفن الذى ليس له نظير، الجمال وافر، ولا أقصد بالجمال ذلك الذى يتبجح فى اللوحات المعاصرة حتى أصبحت تعافه النفس، وسوف يأسف أبطال «دافيد» وأقرانه على أعضائهم الوردية الرخامية أمام أبناء الشمس هنا، رغم أنهم يرتدون الزى الرومانى القديم»، ولقد كانت الملابس المغربية موضوعا غنيا تابعته ريشته أينما كان: فى الطريق، وفوق ظهور الخيل، وفى البيوت المطرزة، ودائما كان يسير ودفتره فى يده يسجل فيه الاسكتشات بنهم، وكان قد اهتم قبل رحيله بشراء الورق الضرورى، وها هو يملأ سبعة دفاتر برسوم مأخوذة من الواقع مباشرة، تتمشى بينها ملاحظات عابرة مكتوبة بعصبية واستثارة على هامش الرسوم ــ التى لاقت بعدها مصيرًا تاريخيًّا، حيث قُدِّمت كأهم مبيعات المزادات العلنية بعد وفاة الفنان، ووصل منها ثلاثة دفاتر فقط إلى المتاحف، وقد أثرت الظروف الصعبة وعدم راحة وضعية الفنان على أسلوب هذه الرسوم، حيث كان يرسمها بعجل وهو فوق ظهر حصانه، وربما تنحصر أهمية تلك الاسكتشات السريعة فى قيمة التعليقات المصاحبة لها؛ إذ تشهد كتابتها المركبة إلى حد كبير على ذاكرة بصرية استثنائية، ومنها كتابته لبعض الجمل مثل «الرجل الجميل ذو الأكمام الخضراء» و«الخادم الخلاس الذى يصب الشاى» و«ذو القفطان الأصفر وبرنس مربوط من الخلف» و«العمامة التى ليس لها مثيل فى التاريخ»، و«العجوز الذى قدم لنا الوردة وقفطانه الأزرق القاتم» و«سباق بين خمسة أو ستة فرسان» و«الشاب الجميل حاسر الرأس الذى يشبه الآلهة» و«القفطان الأزرق الرائع» و«الشاب شبه الزنجى ذو الطاقية المخرمة بالهندسة والقفطان الفضفاض»... وفى أفريقيا يكتشف ديلاكروا نوعية جديدة من النور والإضاءة يقول عنها: «إنه التأثير النادر والنفيس للشمس الوضاءة التى تظهر آسرة فى كبد السماء، لتعطى كل شىء على وجه الكون حياة نابضة تعكس على الأرض ظلالها ليتعانق الضوء والظل فى الصورة».






وتأخذ دفاتر الفنان الفرنسى بعين الاعتبار تطبيقاته الذاتية في تحليل الألوان والظلال «رجال ينعكس عليهم النور من الجانب، مع ظل الأجسام البيضاء الممزوج باللون الأزرق، واللون الأحمر القانى لسروج الدواب، واللون الأحمر الداكن للعمائم فوق الرءوس».. لكنه فى الوقت نفسه لم يكن بوسعه رؤية النساء المغربيات أكثر من خيالات عابرة كالأشباح تتوارى فى النهاية خلف ثقوب المشربيات، ولهذا وجد فى الإطار الذى صحبه إليه الترجمان «بتشيمول» ضالته من النماذج النسوية ليكتب عنهن: «العرس هنا له طابع ساحر، حيث الجميلات يرتدين الصديرى ذا الأكمام فى إطار من الذهب والقطيفة لتستند أمامى بنصفها إلى الباب والنصف الآخر إلى الجدار، أمامها فتاة أكبر سنًّا ترتدى الثياب البيضاء لتظهر الانعكاسات شديدة التباين للظلال الداكنة والسوداء فى الخلفية»، وفى المساء بعد عودته من جولاته برفقة الدليل يهرع إلى حجرته بالقنصلية ليرتّب انطباعاته النهائية تحت ضوء الشمس، وعندما تنعكس ظلال الغروب على المشهد الساحر، وينتهز فرصة اختلائه بخطوطه ليكمل بعض اللمسات، مستخدمًا الألوان المائية التى تفترش جوانب الخطوط، وقد أرهقه كثيرا العمل بين الصباح والمساء، إلا أنه كان دائم السخط على أنه لا يستطيع اقتناص هذا الكم الهائل من الصور الفنية اللـهم إلا اليسير منها، الذى يعترف لنفسه بأنها قليلة الأهمية بالنسبة للموجود حوله.






وأخيرا تصل دعوة السلطان عبدالرحمن للسفر إلى مدينة «مكناس» وتنطلق القافلة التى تضم خمسين شخصا يحرسهم الجنود وقادة البغال، وأربعين دابة لنقل الأمتعة والخيام وصناديق الهدايا التى ستقدم لأمير الشرق، وتمضي القافلة تشق طريقها عبر غبار الدروب، ويركب «مورنيه» السفير بغلة القنصل بملابسه الأوروبية التى تمثل نشازًا فى الإطار الشرقى من حوله، أما الفنان المبهور أينما ارتحل فى بلاد الجمال فلم يكن يعبأ بأشعة الشمس المحرقة التى حولت جلده إلى سواد، ليظل يرسم اسكتشاته، ويكتب تعليقاته وملاحظاته عن: الهضاب التى تظهر فى الأفق مع شعاع الفجر، وأشجار الغار المزهرة، والوديان المترعة بالخضرة والنماء على الجانبين، والقرويات الواقفات بشموخ وترحيب يقدمن الحليب عند توقف القافلة فى المساء، واستعراضات الفرسان التى تقام على شرف الضيوف، ومع كل هذه المشاهد كان الجو مصحوبًا بالصخب ورائحة البارود والعباءات السابحة فى مهرجان الفرسان البرجاس، وقد أدخل ديلاكروا لفظة Fantasia الإسبانية إلى اللغة الفرنسية بعد رحلته الشرقية التى دغدغت حبه للفروسية وعالم الخيول.. وبعد الوصول إلى مكناس العاصمة، لم يمكث ديلاكروا طويلا فى قصر الضيافة، ليدور من حوله يسجل المشاهد والاستعدادات للحفل الكبير الذى دار فى الهواء الطلق للقاء السلطان بالسفير؛ حيث انعكس فى ذهنه انطباعا بالزمن القديم ومشاهد التاريخ الإسلامى.. البوابة الهائلة ذات الأبراج ووصول السلطان ممتطيًا جواده، والملابس البيضاء الشفافة للجوارى اللاتى يروحن بالمراوح حول جلسة الأمير، وتجمع الأشراف فى أطراف الساحة، ومن هنا انبثقت لوحة سلطان المغرب التى عرضت عام 1845م، ومن ثمَّ لم يكتف ديلاكروا بمدوناته واسكتشاته، بل أخذ يطوف الأسواق ليُضيف كل جديد إلى حقائبه التى اكتظت، إلى جانب الأوراق، بذكريات من المغرب من كل لون مثل «البابونج والقفاطين والحلى الفضية».






وتغادر السفينة ميناء طنجة فى العاشر من يونيه، وعلى متنها الفنان الذى جمع اسكتشات عاشت معه حتى النهاية، لتُوحى له برسم أكثر من ثمانين لوحة حول المغرب، كما كشف جرد لمرسمه بعد وفاته عن آلاف الرسوم الأخرى جميعها من وحى المشرق العربى، وهكذا غيرت الأربعة أشهر التى قضاها فى المغرب من أسلوب ديلاكروا ليبدأ من بعدها فى بناء عالم جديد، وتركيبات جديدة مهدت لعودة الكـلاسيكية إلى كنف الحركة الرومانسية، وعلى إثر رحلة ديلاكروا قام العديد من الفنانين بزيارة المغرب بحثا عن انطباعات جديدة، وهى رحلات الشرق الذى يضم مع المغرب مصر وسوريا وفلسطين وبلاد فارس والهند، وهو ما أصبح فى القرن التاسع عشر البديل عن إقامة الفنانين التقليدية فى مدارس إيطاليا، وقد أعطت الكشوف البعيدة فى الشرق بطبائعها الغريبة ومناظرها الغارقة فى ضوء الشمس مثل «فرومنتان» و«دو كامب» سببا جوهريا لرسم لوحات مشبعة بالألوان الحية، واقتفاء لآثار ديلاكروا قام الفنان «ماتيس» بزيارة إلى المغرب مرتين، مما أوحى له هو الآخر برسم العديد من اللوحات، أما «بول كلى» فقد تلقى وحى الشرق فى تونس الخضراء، وبالذات فى بلدتى «الحمامات» و«القيروان».






وربما تعد لوحته «نساء الجزائر» -التى رسمها عام 1834 ويبلغ ارتفاعها نحو 180سم وعرضها 230سم أحد الأعمال الأساسية فى متحف اللوفر الباريسى ــ الذروة بين عشرات اللوحات والتخطيطات التى حققها ديلاكروا خلال سفره أو بعد عودته من الشرق، ومن هنا لم يكونوا مغالين أولئك الفنانون ــ من سيزان إلى رينوار وماتيس إلى بيكاسو ــ الذين كان تأثير تلك اللوحة كبيرا عليهم هندسة ولونا واشتغالا على التفاصيل وصولا إلى لعبة الظل والضوء، حتى أن رينوار كان يحلو له أن يقول إنه حين يقترب من اللوحة يستنشق رائحة البخور تملك عليه شغاف فؤاده، وكان سيزان يصف انعكاس اللون الأحمر فيها كمذاق الشهد حينما يصل إلى أعلى جدار الحنجرة، ونعرف أن بيكاسو كان من الافتتان بهذه اللوحة إلى درجة أنه حاكاها أكثر من 15 مرة قبل أن يصل إلى تحقيق لوحة له شهيرة تحمل العنوان نفسه، وبيّعت لمقتنى لوحات صينى أخيرًا بـ170 مليون دولار.. ولم يكن تأثير تلك اللوحة على الفن فقط بل امتدت ذبذباتها لتطول عالم الأدب كذلك، لتكتب الأديبة الجزائرية «آسيا جبار» (1936 ــ 2015) مؤلفها «نساء الجزائر فى شقتهن» تقارن فيه بين نسوة ديلاكروا الناعمات والمرأة الجزائرية المناضلة اليوم، وتُسقط حمائم غضبتها على لوحة بيكاسو المماثلة لتعامله فيها بوحشية سادية مع الجسد الأنثوى ممزقًا إياه على الطريقة التكعيبية، ومبرزًا ما فيه من شهوانية على حساب الكرامة الإنسانية.. و..لقد عبَّر ديلاكروا عما تعلمه من رحلته الشرقية بقوله الخالد فى رسالة لصديق «إن روما لم تعد روما إنها فى أفريقيا الشمالية» وذلك حينما اكتشف كل ما كان يريد اكتشافه.






وإذا ما كانت لوحات الشرق تعد علامة بارزة فى تاريخ ديلاكروا الفنى، فهناك أشهر لوحاته قاطبة، وهى لوحة «الحرية تقود الشعوب» التى رسمها عام 1830، واستقرت فى متحف اللوفر منذ عام 1874 لتعد من أهم أعمال القرن التاسع عشر، والتى قال عنها صانعها فى رسالة أرسلها إلى أخيه: «لقد شرعت فى العمل بإصرار فى موضوع جديد.. إننى لم أحارب فى سبيل الوطن، لكننى أستطيع على الأقل أن أرسم له».. وتظهر فى اللوحة امرأة بيدها اليمنى علم التحرير، وتقبض باليسرى على بندقية، وهى تنظر إلى رجال يخترقون الدخان الذى يشكّل خلفية اللوحة، وقد امتلأت أرضية اللوحة بالجثث تُعبِّد الطريق إلى النصر، وتزخر عناصر اللوحة بالدلالات التى أراد لها ديلاكروا أن تكون متميزة عن بقية أعماله.



لقد وضع الفنان المتلقى للوحة ومشاهدها فى بؤرة العمل حين وضع المرأة بصدرها العارى فى منتصف العمل الذى جسدت فيه المرأة الرمز من خلال الواقعية، كما استمدت بُعدها الدرامى من درجات اللون البنى، فيما عملت الإسقاطات الضوئية على تكريس الإيقاع الجمالى للوحة، وتظهر في اللوحة التاريخية أبراج كنيسة نوتردام من بين سحب الدخان الخلفية، والتى رُسِّخ اسمها فى الأذهان بعد رواية فيكتور هوجو فيما بعد رمزًا للرومانسية الفرنسية، ولم ينس ديلاكروا أن يرسم نفسه فى اللوحة، إذ يبدو فى اليسار مرتديا قبعة طويلة وممسكا بندقية، واختيار الفنان الغريب لامرأة عارية الصدر كرمز للحرية قد يكون فيه الرغبة للإشارة إلى أن الثورة تنطوى على «إغراء وفتنة».



وتعد اللوحة «الحرية تقود الشعب» أول لوحة سياسية حقيقية حديثة بحسب ما يؤكد لنا الناقد الفرنسى «جيل نيريه» الذى يبهره كون ديلاكروا قد رسم بطلته وهى تسير فوق بساط مكون من أجساد الموتى جارّة وراءها الجماهير الغاضبة، كما رأى فى أن يكون الثدى ظاهرا رمزا للأم الحنون التى تغذى الشعب والجمهورية، معبّرة عن قيم الجمهورية الاجتماعية، ولابد من ملاحظة أن كثيرا من الفنانين أمثال «جويا» و«جيريكو» و«جرو» الذين عاصروا «ديلاكروا» أو تلوه، قد تأثروا كثيرا بهذه اللوحة إلى درجة أنهم شكلوا من وحيها أفضل لوحاتهم، بما يعنى أنها كانت نقطة التأسيس فى هذا المجال، أما اللوحة نفسها فإنها من بعد ما أنجزت اشتراها الملك «لوى فيليب» مقابل 3000 فرنك، لكنه فضل ألا يعرضها للأنظار حتى حان مصيرها إلى جدران اللوفر. ومن خلال إجماع النقاد فإن ديلاكروا قد استقى تفاصيل لوحته من خلال مشاركته المباشرة للأحداث الثورية التى يصوّرها، وقد كان خلال تلك الأحداث على مدى عدة شهور قد رسم الكثير من الاسكتشات والتخطيطات التمهيدية، وقد عاد لاستخدام معظم تلك الاسكتشات فى اللوحة جاعلا مركزها المرأة حاملة العلم التى تأخذ وحدها دون الآخرين بُعدًا رمزيًا واضحًا، وهناك امرأة تحتضر متضرعة ترتدى الأزرق والأبيض والأحمر ترمز إلى الأمة المتألمة، وعلى يمين اللوحة صبى يمسك بكـلتا يديه مسدسًا يرمز إلى مستقبل الوطن، وهذا الصبى الذى استهلم فيه «فيكتور هوجو» شخصية «جافروش» فى روايته «البؤساء»..



و.. يظل ديلاكروا حتى رحيله فى عام 1863 أكثر رسامى فرنسا تنوعا وتأثيرا على الإطلاق بعدما دافع عن الوطن باللوحة والفرشاة.