عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
رحلة أحمد أبو الحاج إبراهيم من منيل السلطان إلى «كوليج دى فرانس»
5 نوفمبر 2021
د. عبدالرحيم الكردى


تعد رحلات الدارسين المصريين إلى أوروبا فى بعثات علمية واحدة من أهم أسباب النهضة العربية الحديثة، بدءًا برفاعة الطهطاوى، ثم على مبارك وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم.



ومنذ اليوم الذى كانت تحط فيه قدما كل واحد من هؤلاء المبعوثين فى أوروبا كانت تنتابه حالة من الانبهار، وكانت هذه الحالة غالبًا ما تتجلى حدتها فى المقارنة بين الواقع المصرى وبين الواقع الأوروبى، خاصة إذا كانت نشأة المبعوث ريفية، وقد ظهر ذلك فى كتب «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز « للطهطاوى، و«الأيام» لطه حسين، و«من باريس إلى سنتريس» لزكى مبارك، و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم.



..........



أما «أحمد أبو الحاج إبراهيم» فهو الاسم الأصلى للدكتور أحمد درويش، الناقد الأدبى المشهور، أستاذ النقد والأدب المقارن بكلية دار العلوم، وهو الاسم الذى كان يعرف به فى طفولته فى قريته» منيل السلطان» التى ولد فيها، وهى قرية تقع على الشاطئ الشرقى للنيل جنوب حلوان، وهى لا تختلف عن سائر القرى المصرية، ولد أحمد فى أوائل أربعينيات القرن العشرين، وحفظ القرآن فى التاسعة، ثم التحق بمعهد القاهرة الأزهرى فى الدراسة، وعاش حياة المجاورين فى الأزهر الشريف، وسكن فى العطوف والباطنية وكفر الزغارى، وأكل الفول والطعمية، ونام على الحصير ولبس القبقاب، ثم التحق بكلية دار العلوم فى مبناها القديم فى المنيرة، وتخرج فيها بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وكان الأول على الكلية، فعين معيدًا، ثم سافر إلى باريس للحصول على درجة دكتوراة الدولة، ولم يكن يعرف من الفرنسية كلمة واحدة، وهنا كان ما اسماه «الصدمة» وعاد بعد ثمانى سنوات وهو يحمل أرفع درجة علمية فى مجال تخصصة من الكوليج دى فرانس أرفع المعاهد العلمية فى فرنسا.



وبعد ثمان وثلاثين سنة من عودته من باريس، بدأ أحمد درويش يبوح بأسرار هذه الصدمة، وذلك فى سيرته التى صدرت حديثًا بعنوان «اختلاف النهار والليل» هذه الصدمة لا تتعلق بعدم معرفته باللغة الفرنسية، وليس بالعلوم والمناهج الحديثة، ولا بالغربة، بل الصدمة الحضارية، أى اتساع الفجوة الحضارية بين شاطئى البحر المتوسط، أو التناقض الحاد بين ما ترسب فى ذاكرته وما يراه بعينيه، وهى الصدمة نفسها التى عاشها رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وطه حسين وزكى مبارك وتوفيق الحكيم عندما سافروا إلى باريس وسجلوها فى كتاباتهم، لكن الوعى بهذه الصدمة كان يتطور مع توالى الأجيال، فالطهطاوى كانت تبهره مظاهر الحياة الباريسية الغريبة، مثل عمل السيدات فى المقاهى، وطرق المأكل والمشرب والملبس، أما طه حسين ولويس عوض وزكى نجيب محمود فكانت تبهرهم مناهج البحث العلمى، وأما أحمد درويش فقد كانت صدمته أعمق من ذلك، كانت صدمته تتعلق بروح الحضارة، بالأسس العميقة التى يؤدى ازدهارها إلى حياة الحضارة ويؤدى ضمورها إلى موتها. هذه الروح الحضارية تكمن فى عدة أسس، بعضها يتعلق بطرق التفكير، وبعضها بالأخلاق، وبعضها بالعادات.



من ذلك مهارة الاستفادة من تجارب الآخرين، فبنية المعرفة عندهم تراكمية، يطور اللاحق ما توصل إليه السابق ويضيف إليه، بينما نجتر نحن ما سبق، أو نبدأ من الصفر، ويضرب لذلك مثلًا بحوار جرى بين أحد الدارسين المصريين للقانون وشيخ فرنسى عجوز فى مكتبة باريس، فقد لا حظ الشيخ الفرنسى أن الباحث المصرى الذى يجلس فى المقعد المجاور له فى المكتبة يحمل عددًا كبيرًا من المجلدات، فسأله الشيخ عن سر عكوفه على كل هذه المجلدات، فقال الشاب:إنه يصنع بحثًا عن القوانين المستمدة من أعمال فولتير، فهو لذلك يفحص أعمال فولتير صفحة صفحة، فقال له الشيخ وهل تعتقد أن هذا الأمر لم يبحثه أحد من قبل؟ وأخذه إلى أرفف المكتبة ودله على كتابين فى الموضوع نفسه، وقال له: تستطيع بعد قراءتك لهما أن تقدم إضافتك أنت.



ومن ذلك أيضًا الفارق بيننا وبينهم فى التطبيق الإنسانى والتطبيق المتوحش للرأسمالية فى مجال التعليم يقول: «كان نظام مدرسة الحى رائعًا فى النظام والتعليم ورعاية الأطفال خلال العام الدراسى والإجازات السنوية ونصف السنوية على السواء، وكان يعكس تمازجًا رائعًا للنظامين: الرأسمالى والاشتراكى فى أرقى صورهما، لصالح البشر وليس عبر استغلال البشر كما يحدث عندنا فى تجارة «التعليم الخاص» كان الأطفال يُقبَلون فى مدارس أحيائهم وفقًا لشهادات ميلادهم وعناوين مساكنهم فقط وبصرف النظر عن أى شىء آخر، يتعلق بالأسرة غنىً أو فقرًا، سوادًا أو بياضًا، انتماءً للوطن بالجنسية أو الإقامة، وكانوا يُقبَلون فى فصول الرعاية الغذائية والاجتماعية بعد انتهاء الدراسة حتى السادسة مساءً إذا كانت الأمهات يعملن أو يدرسن، وفى مثل هذه الحالة، يتلقى الطفل رعاية غذائية وصحية وتعليمية وترفيهية، يتساوى الجميع فى التمتع بها،وتكلف ميزانية المدرسة نحو مائة فرنك يوميًا للطفل آنذاك. ولكن الطريقة الحضارية الرائعة المدهشة، كانت تتمثل فى طريق حساب نصيب أولياء الأمور من هذه التكلفة.



وهنا يتحقق مفهوم التطبيق الإنسانى للرأسمالية، فبعد بدء الدراسة وانتظام التلاميذ ترسل المدرسة لكل أسرة استمارة لتحديد دخلها، فإذا كان دخل الأسرة أكثر من ثلاثين فرنك مثلًا فى الشهر فإنها تتحمل نفقات أبنائها بالكامل، وإذا كانت عشرين ألفًا، تحملت ثلثى النفقات فقط، وإذا كان عشرة تحملت الثلث، وتظل النسبة فى هبوط.. دون أن يشعر التلاميذ.. ودون إيجاد أى فروق.. فيخرج ابن العامل السنغالى أو الجزائرى البسيط وابن الرأسمالى الفرنسى، صاحب الشركات من مؤسسة تعليمية واحدة، وهم يشعرون بالمساواة فى الانتماء إلى الوطن والاستفادة من خبرته، دون أن يحول دون ذلك ظروف اقتصادية أو طبقية أو عرقية لأسرهم المحيطة بهم، كما يحدث فى مجتمعاتنا».