رحل عن عالمنا قبل أيام المفكر وأستاذ الفلسفة الدكتور حسن حنفي. قدم الراحل الكبير بعضا من أهم جهود الإصلاح والتجديد الفكرى، فما أحوجنا لإعادة قراءته ونحن نبحث عن أنساق فكرية وأيديولوجيات تملأ الفراغ الفكرى، وطرائق نسلكها للنهوض بالوعى واستنهاضه.
عرفت الدكتور حسن حنفى فى أولى سنواتى الجامعية فى منتصف السبعينيات. كنت طالب الهندسة الذى يقضى أغلب وقته فى مدرجات الآداب والاقتصاد، فحضرت مستمعا ومستمتعا بمناظرة أدارها الدكتور حسن حنفى بين اثنين من طلابه، وموضوعها قياس الغائب على الشاهد. أحد المتناظرين كان هو المخرج المبدع الراحل رضوان الكاشف، فتعرفت إليه وفزت بصداقته، وتابعت أفلامه بشغف. بنفس القدر من الشغف تابعت الإنتاج الفكرى الغزير للفيلسوف الراحل حسن حنفى، خاصة والأمر أصبح أكثر سهولة بعد أن رحلت عن الهندسة لدراسة العلوم السياسية، حيث الوقت وفير والمناخ مشجع.
اكتشف المصريون والعرب والمسلمون تخلفهم بعد اصطدامهم بالغرب الحديث المتقدم، ومن يومها ونحن فى حالة بحث لا ينقطع عن الطريق الذى علينا أن نسلكه حتى نلحق بالغرب، ونسد الفجوة التى تفصلنا عنه. انقسم مفكرونا إلى ثلاثة مذاهب فى البحث عن مخرج من أزمة التخلف. حذرنا الأصوليون والسلفيون من الافتتان بالحضارة الحديثة، ودعونا للتمسك بما كان عليه السلف، ظنا أنه من الممكن أن نعيش القرن العشرين بالطريقة التى عاش بها أسلافنا قبل خمسة عشر قرنا. على الطرف النقيض كان هناك أنصار التغريب، ومن رأيهم أن الموروث والتراث هو سبب تخلفنا، وأنه لا تقدم لنا إلا بخلع القديم، واستعارة أسس الحضارة الحديثة كما أنتجها الغربيون. المزاوجة بين القديم والجديد كان هو الخيار الثالث والطريق الوسطى الأكثر قبولا وشيوعا، ولهذا التيار انتمى حسن حنفي.
يوجد الكثير من التنويعات داخل كل من هذه التيارات الثلاثة، أما القدر الأكبر من التنويعات فنجده فى التيار الوسطى، الذى يسعى أنصاره لمصالحة الإسلام والحداثة، كل على طريقته، وفى هذا كانت لحسن حنفى طريقة مميزة، شرحها فى كتبه الكثيرة، وأهمها كتابه التأسيسى «التراث والتجديد».
رفض حسن حنفى الجماعات التى تحاول التغيير بالقوة، أو عبر الوثوب على السلطة، ورفض أيضا التنظيمات السرية، التى تقوى العقلية المتآمرة، والاحساس بالاضطهاد، والانفصال عن الآخرين، والرغبة فى السيطرة. وكتب أن تنظيم الجماهير فى جماعات مغلقة ينقصها الحوار، ومطالبة المنتسبين بالطاعة المطلقة، والإيمان بأنهم وحدهم على حق والآخرين على باطل، هو عنصرية فكرية ومنهجية وعملية وعقائدية.
رفض حسن حنفى أيضا التبعية لفكر الغرب، والوقوع ضحية عالمية الثقافة، وما وصفه بالتقليد الأعمى والعمالة الفكرية، وكتب أن نقل الفكر ضار بالفكر المنقول، لأنه يفصله عن واقعه الخاص، والفكر ليس كالمتاع ينقل من بيئة إلى أخرى، بل هو المعبر النظرى عن واقع خاص.
من أهم ما قال به حسن حنفى هو أن التراث ليس مخزونا ماديا فى المكتبات، وليس كيانا نظريا مستقلا بذاته، ولكنه مخزون نفسى عند الجماهير. التراث القديم ليس قضية دراسة الماضى العتيق، الذى ولى وطواه النسيان، ولا يزار إلا فى المتاحف، ولا ينقب عنه إلا علماء الآثار, بل هو جزء من الواقع ومكوناته النفسية. فالتراث موجود معنا ليس بقدر ما توجد الكتب العتيقة على رفوف المكتبات، ولكن بقدر ما تكون الأفكار والتصورات والمثل المستمدة منه موجها لسلوك الجماهير فى حياتها اليومية. فبينما انصرف الأصوليون والسلفيون إلى بطون كتب عتيقة مهجورة يبحثون فيها عن موروث نصلح به مستقبلنا، دعانا حسن حنفى لدراسة ثقافة الشعب ومزاجه وأحواله النفسية، ففيها نجد الموروث الذى وصل لنا عبر الزمن، وهو الجزء من التراث الجدير باهتمامنا.
لاحظ أن التراث الذى دعانا حسن حنفى للاهتمام به ليس موروثا دينيا فقط، فكل جزء من ثقافة الشعب وصل إليها منقولا عبر الزمن يعد فى رأى الدكتور حسن حنفى تراثا، حتى وإن لم يكن له أصل دينى. لهذا فإن حسن حنفى هو مفكر وفيلسوف وطنى بامتياز، وفى رأيه فإن تراثنا القديم ليس قضية دينية، ولكنه قضية وطنية تمس حياة المواطنين وتتدخل فى شقائهم أو سعادتهم. وأن الدافع للتجديد ليس عاطفة التقديس والاحترام والتبجيل الواجبة لكل موروث دينى، بل انتساب الإنسان المحدد إلى أرض وانتمائه إلى شعب.
التراث والتجديد، فى رأى حسن حنفى ليسا مصطلحين منفصلين نحاول الربط بينهما، فالماضى والحاضر كلاهما معاشان فى الشعور، ووصف الشعور هو فى نفس الوقت وصف للمخزون النفسى المتراكم من الموروث فى تفاعله مع الواقع الحاضر، وتحليل التراث هو فى نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها, وتحليل عقليتنا المعاصرة هو فى نفس الوقت تحليل للتراث بقدر ما كان التراث القديم مكونا رئيسيا فى عقليتنا المعاصرة؛ ومن ثم يمكن رؤية الحاضر فى الماضى، ورؤية الماضى فى الحاضر. فربط الماضى بالحاضر إذن هو ضرورة ملحة حتى، لا يشعر الإنسان بغربة عن الماضى، أو بغربة عن الحاضر، أو بوضع طبقة من الجديد فوق طبقة من القديم، مما ينشآن عنه فى كثير من الاحيان لفظ القديم للجديد.
من أبلغ ما كتب حسن حنفى أن تجديد التراث هو وسيلة للبحث عن روح الشعب وتطويرها كوسيلة لتطوير الواقع ذاته ولحل مشكلاته. أليس هذا بعضا مما نقصده عندما نتحدث عن الوعي؟ لهذا علينا إعادة دراسة ما كتبه حسن حنفى بعناية فائقة، فقد نجد فيه إجابات عن أسئلة تشغلنا.