عالم بلا دولار.. طوفان العملات الرقمية
فى أقل من عشرين عاما صار مستقبل القلم والكتاب والصحيفة فى مهب الريح بعد أن تغيرت وسائط الكتابة والقراءة والفن المرئى والمسموع. أطاح عالم (الشبكة العنكبوتية) الافتراضى بما ابتكره الإنسان من أدوات مادية فى قرون وغيَّر ويغيِّر وسيغيِّر سلوكه الاجتماعي؛ فمن الطباعة للمكتبات للاجتماعات للجامعات للمدارس والتعليم يتبدل كل شيء بسرعة مذهلة. وهكذا صارت هناك تساؤلات عالية الصوت عن دور المصارف وشكل صناعة وتجارة الأسهم والسندات ومشتقاتها وعن النقود ذاتها. فهل من الحتمى أن يتغير دور العملات (الورقية)؟ وعلى رأسها الدولار الأمريكى والذى تتم طباعته الآن ولعقود بمجرد قرارات أمريكية ؟
أثيرت لذلك قضايا قديمة؛ فالذهب -وهو الغطاء النقدى التاريخي- يكتسب قيمته من ندرته، فهل من الممكن أن يظهر غطاء نقدى بديل (افتراضي) وبالضرورة (نادر) هو الآخر؟ وهل ممكن أن يتحول هذا (الغطاء النقدى الافتراضي) إلى (الرصيد) الأساسى فى عالم الأموال للدول والأفراد؟ وهل من الممكن أن تستخدم الولايات المتحدة هذه التكنولوجيا الجديدة لانتقال وتوكيد سيادتها على (نظام مالى جديد) فيكون أكثر ملاءمةً لعصر الشبكة العنكبوتية؟ وأكثر تناغماً مع التطور الحتمى نحو الذكاء الاصطناعي؟ وأكثر مناعة فى عصر الاختراقات الالكترونية؟ فهل من المفيد بل ومن الحتمى للولايات المتحدة أن تهجر الدولار ذاته؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا الانتقال بما يضمن المزيد من انتقال ثروات العالم لها؟
والإجابة هى أن هذا ربما هو ما يحدث الآن تدريجيا فيما يسمى (البتكوين) وهى أقدم وأشهر العملات الرقمية، والتى تختلف عن نظيراتها جميعا فى كونها لها سقف محدد سلفا بـ ٢١ مليون (بتكوين) وهو ما يتشابه مع الذهب فى ندرته، وهو ما يختلف عن باقى العملات الرقمية.
عملة البتكوين هى معادلة رقمية. تحصل عليها إذا تمكنت من حل معادلة تتوالى من معادلات الشفرة لمنع تزييف النقود الالكترونية. وهى بالأساس معادلة كوَّنها شخص يُدعى (ساتوشى ناكاموتو وهناك من يشك أن هذا الشخص لا وجود له أو أنه مجموعة من المتمردين الإلكترونيين أو فريق مستتر يعمل على تجديد نظام المال العالمي.
فلقد واجه السعى لخلق نقود الكترونية مع إنشاء الشبكة العنكبوتية العديدَ من المعضلات، ولكن (المسودة) الأولى لحل أهم تلك المعضلات وهو تزييف العملات الرقمية تم تجاوزه بالبروتوكول الذى اقترحه (ساتوشى ناكاموتو) عام ٢٠٠٩؛ فهو نظام رياضى معقد يتغلب على قضايا التزييف، واستند أيضاً إلى وجود سلسلة واسعة من كمبيوترات هى (العقد العالمية) تتبادل المعلومات عن تلك (البتكوين إلكترونيا) فتتعرف عليها وتؤكد حقيقتها وحقيقة تبادلاتها حول العالم كل عشرين دقيقة دون احتياج لبنوك ومصارف أو عمولات. فيتم حفظ تلك العملات التى هى بالأساس (معادلات مشفرة) فى محافظ إلكترونية باردة للتخزين أو ساخنة للاستخدام.
صارت لهذه العملة لذلك قيمة ثم محافظ الكترونية، وارتفع ثمنها بداية بين الهواة إلى أن اتضح أن لها قيمة مالية واجتماعية تتجاوز العبث. فصار هناك العشرات والآلاف يسعون لحل المعادلة المعقدة بكمبيوترات ضخمة وهو ما أطلق عليه (التعدين minning) للحصول على تلك العملات الرقمية ويقدم هؤلاء ذلك التطور النقدى كبديل متمرد مستقل عن الحكومات والبنوك المركزية.
ولكن سقف العدد المحدد بـ ٢١ مليون (بتكوين) خلق قيمة الندرة، ووهب تلك العملة القدرة على أن تكون رصيداً أو مخزونا للقيمة. فبالمقارنة فما هو مخزون الدولار الذى تتم طباعة تريليونات منه الآن؟ الإجابة إنه (لا شيء أو حاملات الطائرات الأمريكيه). فمنذ فصل نيكسون الدولار عن رصيد الذهب الاستراتيجى فى ١٥ أغسطس ١٩٧١ صارت أمريكا تطبع أوراقاً تسميها دولارات قيمتها الحقيقية هى أنها أمريكية.
هناك من يرون أن ظهور العملات الرقمية هو حدث بضخامة ظهور الإنترنت، وأن سرعة تبنيها ستتجاوز سرعة تبنى الإنترنت. فما هى المخاطر؟ المخاطر الأساسية هى أن الأمر لن يحدث دون صدام مع البنوك والسياسيين! فكل ما له علاقة بالأموال هو سياسة وهو أمن، ولكن عمق الأزمة الاقتصادية الحالية واتساعها وتعقدها يتجاوز قدرات الساسة والمصارف على تجاوزها وعلى استمرار أوضاع إدارة الأموال كما هى عليه اليوم؛ بل وعلى تقديم حلول واضحة لتراجع القيمة الحقيقية للدولار أمام التضخم العملاق الذى يهدد البشرية والناس اليوم. وعليه فإن القيمة الشرائية لكل العملات الورقية الأوروبية والأمريكية تتراجع وستتراجع. لكن العلاج وهو رفع سعر الفائدة لمستويات عالية محاطٌ بقضايا اقتصادية واجتماعية معقدة فى العالم الصناعى الذى اعتمد سياسة الإقراض الداخلى بسعر فائدة يقترب من الصفر لعقودٍ. وعليه فالتطور الحتمى لهذه الأزمة هو انخفاض القيمة الشرائية للعملات الورقية حول العالم فالناس ستهرب إلى أى بديل خارج إطار العملات الورقية والذى قد تتسابق البنوك المركزية ذاتها على تجاوزها إلى عملة البتكوين! فذلك التغيير قد يكون فرصة سياسية اقتصادية لحلول وسط أزمة اقتصادية كونية مستحكمة. فالبتكوين ليست عملة إنما هى ( نظام مالى جديد) قد يحمل فى طياته تمردا ضد الهيمنة المالية، ولكنه قد يكون ايضا نذيراً بانهيار السيادة القومية كذلك على العملات الوطنية وظهور نظام مالى جديد يكون أحد أذرع الولايات المتحدة الجديدة بعيدا عن المصارف كما نعرفها. والإشارات لاندماج العملات الرقمية فى الاقتصاد العالمى كثيرة؛ ومنها ظهور ماكينات الكترونية لشرائها فى لندن مثلاً، أو تبنى شركة أمريكية عملاقة كباى بال paypal لها.
هل هناك فرصة لمصر؟ الأمر للدولة هو تجاوز الإجابة التقليدية إن أمر البتكوين إشاعة وأنه مشابه لظاهرة شركات الدوت كوم وانهيارها, فحتى انهيار تلك الشركات لم يمنع انتشار الشبكة العنكبوتية حول العالم كله. فعلى مصر السعى لاكتساب التراث المعرفى الذى يتراكم بسرعة فى ذلك المجال الذى اقترب حجم تبادلاته ١.٥بليون دولار وعلها تدخله بأموالها وبأموال المنطقة العربية كى تكون فى قلب هذا( النظام المالى العالمى الجديد)، فتشارك فى جنى أرباحه أو تحمى الأرصدة العربية من فقدان قيمتها الشرائية المقيمة بالدولار بالتخلص منه واستبداله بعملة عصر الانترنت ورصيدها الرقمي.