كتاب الجنرال «دانى آشر» أثار صدمة واسعة فى تل أبيب:
«مدافع الظهيرة» تهدم أسطورة الأمن الإسرائيلى
الكتاب يمثل ذروة الاعتراف الإسرائيلى بالهزيمة الساحقة فى أكتوبر
كيف حقق المصريون النصر بخطط القتال السوفيتية المعدلة؟
على مدار أكثر من نصف قرن، صدرت العديد من الدراسات الغربية، حول حرب أكتوبر، بجانبيها العسكرى والسياسي، لكن يظل كتاب «الاستراتيجية المصرية فى حرب يوم كيبور»، للخبير العسكرى الإسرائيلى دانى آشر، واحدا من أهم الدراسات والكتب التى صدرت عن حرب أكتوبر، فالمؤلف فضلا عن كونه عضوا بارزا فى اللجنة الدولية المعنية بصياغة التاريخ العسكرى الحديث، عمل لأكثر من أربعة عقود فى المخابرات الحربية الإسرائيلية، وتحديدا خلال الفترة من عام 1962 حتى عام 2003، وهو ما يعنى أنه كان معاصرا لوقائع الحرب عن قرب، وشاهدا على أبرز تحولاتها وما أحدثته من تأثير كبير على منطقة الشرق الأوسط، ربما كان من أهمه، نهاية أسطورة الأمن الإسرائيلي، التى روجت لها وسائل الإعلام الصهيونية، خلال الفترة التى أعقبت نكسة يونيو عام 1967.
تكتسب شهادة الجنرال دانى آشر، التى يتضمنها كتابة «الاستراتيجية المصرية فى حرب كيبور» الصادر عن دار نشر ماكفارلاند بولاية نورث كارولينا الامريكية فى عام 2009 أهميتها، ليس فقط من كونها تمثل ذروة الاعتراف الإسرائيلى بالهزيمة الساحقة فى أكتوبر، وانما لأنها تأتى هذه المرة من الطرف المُعادي، اذ لا يخلو موقع من الكتاب الذى نشر لأول مرة بالعبرية فى عام 2003، قبل أن تتم ترجمته الى الإنجليزية ولغات أخرى بعد ذلك، من اعتراف بما يصفه آشر بـ«العبقرية العسكرية لقادة حرب أكتوبر»، وكيف نجحت العلاقة التى جمعت بين القادة العسكريين فى مصر، والقادة السياسيين للبلاد، فى تلك الحرب المفصلية فى التاريخ العسكرى الحديث لمنطقة الشرق الأوسط، فى تحقيق الهدفين العسكرى والسياسى من الحرب، على نحو أثر بشكل كبير على مسار الصراع العربى الإسرائيلي، وغير كثيرا من موازين القوى فى منطقة الشرق الأوسط.
يستعرض دانى آشر عبر فصول كتابه، كيف نجحت العبقرية العسكرية المصرية، فى تطويع الاستراتيجية السوفيتية العسكرية، التى برزت فى الحرب العالمية الثانية، والانجليزية التى ظهرت فى حروب انجلترا مع فرنسا، بما يتفق مع الأهداف الاستراتيجية المصرية من الحرب، وكيف كان ذلك التكامل بين العسكرى والسياسى، مؤثرا وفعالا الى درجة كبيرة فى تحقيق الغرض المصرى من الحرب، سواء على المستوى العسكري، بتحرير الأرض التى تم احتلالها عقب نكسة يونيو 1967، او على المستوى السياسي، بكسر جمود حالة «اللاسلم واللاحرب».
يعترف دانى آشر بأن الهدف الاستراتيجى المصري، من حرب أكتوبر كان يستهدف بالأساس ضرب العقيدة الأمنية الإسرائيلية، والوصول فى الوقت نفسه إلى حل سياسى للأزمة، مشيرا الى أن فكر قادة حرب أكتوبر، كان يتركز فى تلك الفترة، على كيفية مواجهة المشاكل التى أعدتها لهم العسكرية الاسرائيلية، وأهمها التفوق الاسرائيلى فى الطائرات والمعدات، فضلا عن حاجز قناة السويس، حيث مثلت هذه العوائق ما يصفه بالمبدأ الذى تجذّر فى عقول وضمائر مؤسسات الأمن الإسرائيلي، والذى يؤكد أن الجيش المصري، لن يكون فى مقدوره شن حرب لاستعادة سيناء.
لعبت خطط القتال السوفيتية، دورا كبيرا حسبما يرى دانى آشر، فى تحقيق النصر العسكرى لمصر فى حرب أكتوبر، بعدما تبنت القيادة المصرية هذه الخطط، التى كانت قد نفذها الاتحاد السوفيتى سابقا، فى اجتياحه لأوروبا واستعاد أراضيه من القوات الألمانية المحتلة، وتبنتها بعد ذلك نصف جيوش العالم تقريبا، فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ما حدث هو أن القيادة المصرية طوعت تلك الخطط بناءً على طبيعة الموقف الاستراتيجى والجغرافى والعسكري، لشن حرب شاملة على الأراضى المحتلة فى سيناء، وقد أبلى قادة الأفرع وهيئة أركان الحرب، وسلاح المشاة، بلاء حسنا فى تنفيذ تلك الخطط حسبما يقول دانى آشر، وفى تنفيذ العمليات العسكرية، بل والتخطيط المفصل للحرب، الذى ركز على وضع المشكلات والحلول على المستويين التكتيكى والتقني، انطلاقا من شن الهجوم الخاطف، والتغلب على الموانع المائية، وبناء رءوس الكبارى والدفاع عنها، ويقول آشر إن هذا التخطيط كان متقنا وخاطفا، على نحوٍ شل قادة الجيش الاسرائيلى وضباطه وجنوده، مشيرا الى أن الوقت القصير الذى تمت فيه العمليات، كان كافيا «لتحطيم أسطورة التفوق الاسرائيلي».
تجلت عبقرية التخطيط المصري، حسبما يرى دانى آشر فى كتابه، فى أنها حرمت الإسرائيليين من صنع ظروف كانوا يريدون تحقيقها طوال فترة سير المعركة، مشيرا الى أن هذه الظروف لو كانت قد تحققت، لتحول وجه المنطقة كله لصالح إسرائيل، وقد برز وقتها حسبما يقول دانى آشر سؤال فى غاية الأهمية، عن سر نجاح القوات الجوية المصرية فى تحقيق أهدافها، رغم تفوق سلاح الطيران الاسرائيلى ومعداته؟ ويقول دانى آشر: لقد اتضح منذ الأيام الأولى للحرب، مدى قوة بطاريات الدفاع الجوى المصرية، المنصوبة غرب القناة، فقد كان سلاح المدفعية المصرى يعمل بمثابة المظلة الواقية التى حمت القوات المصرية العابرة لشرق القناة، بينما لعبت الضربة الجوية دورا مؤثرا فى تنفيذ الهدف منها، عبر حماية المدفعية المصرية لها، وقد كانت صواريخ أرض ــ أرض طويلة المدى، التى أطلقها سلاح المدفعية المصرى ــ بتعبير الكاتب ــ واحدة من الإنجازات العسكرية التاريخية، للجيش المصرى ليس فقط فى حرب اكتوبر، وإنما فى التاريخ الحربى الحديث.
يصف دانى آشر، العمليات التى نفذتها قوات الصاعقة المصرية خلال الساعات الأولى التى استبقت الحرب، بأنها لعبت دورا كبيرا فى تغيير سير المعارك، مشيرا الى نجاح تلك القوات فى إبطال مدافع النابالم، التى كانت كفيلة بتحويل مياه قناة السويس إلى بحر من اللهب، يمنع أى عبور برى إلى الضفة الشرقية، ولم يكن تشغيلها يحتاج إلا إلى ضغطة زر، من ريموت كنترول يحمله بعض أفراد الجيش الاسرائيلى المرابطين على خط بارليف. ويقول آشر إن تلك الخطوة الماهرة، التى تمت فى جنح الظلام من قبل المصريين، حولت الحرب إلى صالح مصر، فى وقت كان القادة العسكريون فى إسرائيل، يعولون على ثلاثة محاور كانوا ينظرون اليها باعتبارها تمثل قمة التفوق الإسرائيلى فى هذا الصراع العسكري، أولها القوة العسكرية المتفوقة من حيث التكنولوجيا، ثم المركبات الحربية الحديثة، ومدافع النابالم المنتشرة على طول القناة.
لعبت شجاعة جنود المشاة المصريين، دورا كبيرا حسبما يرى آشر، فى إصابة الدبابات الاسرائيلية بالشلل، فى مواجهة الجنود الذين عبروا القناة، ففى الوقت الذى كان الجندى المصرى يقتحم الموانع بجسارة، كان الجنود الاسرائيليون يهربون من حصون خط بارليف المنيع، ويقول آشر: كرس المصريون جهدهم الرئيسي، للمرحلة الافتتاحية من القتال، التى تمثلت فى عبور القناة، وهى العملية التى ينظر اليها كثير من الخبراء العسكريين فى العالم، بأنها مثلت «مفتاح النجاح الدقيق للجيش المصرى فى المعركة»، ويقول آشر: «لقد فعلها المصريون بسرعة مذهلة، فوزعوا القوات بسرعة، وحددوا مواقع الوحدات، ورتبوا الأولويات، لقد كان كل شيء مخططًا لحدوث العبور، تحت بصر جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، مع عدم إتاحة القدرة لهم على اتخاذ ردود الأفعال لمواجهة هذا الهجوم الكاسح».
نجح القادة المصريون، حسبما يقول آشر فى كتابه الذى أحدث صدمة كبيرة وقت صدوره فى الأوساط الإسرائيلية، فى تدريب قواتهم على كل المستويات، وغرسوا فيهم روح التصميم على النصر العسكري، وقد كان انتصارهم وإنجازهم فى تلك المرحلة من الحرب مفاجئاً للعالم كله، فقد نجح قادة العسكرية المصرية فى حرب أكتوبر، من الاستفادة من أخطاء الماضي، وقاموا بالتخطيط الاستراتيجى الناجح، لمعركة واسعة المدى، مع تحقيق أهداف محددة فى البر والبحر والجو، وقاموا بنجاحٍ شهد له الخبراء العالميون العسكريون بتقييم نقاط الضعف والقوة لديهم، وكذلك نقاط الضعف والقوة الخاصة بعدوهم، وأخذوا فى اعتبارهم أيضًا - فى إطار تقديرهم لكل المواقف المحتملة – احتمال وقوع هزيمة عسكرية محتملة، وقد كان من دلائل عبقريتهم، أنهم خططوا أنه حتى فى حالة وقوع مثل تلك الهزيمة، فإنهم سيحققون معظم أهدافهم بخطط عسكرية أخرى.
كان انطلاق المدافع عند الظهر، هو البداية حسبما يرى دانى آشر، لهدم الأساس الذى قام عليه المبدأ الإسرائيلي، الذى كان يرى أن الجيش المصرى أبعد ما يكون عن تحقيق نصر عسكرى على اسرائيل، سواء على المدى القصير أو الطويل، لكن مع نهاية حرب يوم كيبور، كان الجيش المصرى قد نجح فى تحقيق أهدافه العسكرية والاستراتيجية، وكسر أوهام الأمن الاسرائيلي، ومن قبل ذلك كله استعادة الثقة فى الجيش المصري، بين جميع المصريين.