الاتحاد الأوروبى .. وماذا بعد؟
أصعب لحظة، هى أن يفقد الابن أمه بكل عظمتها وعطائها، ويتضاعف الألم إذا كانت هذه الأم، تجمع فى شخصيتها بين الصدر الحنون والعقل الحكيم، لتترك برحيلها أثرا مطبوعا لاتمحوه الأيام، ومن الصعب نسيانه. وقبل أن تغادر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الحياة السياسية، وضع أعضاء الاتحاد الأوروبى أيديهم على قلوبهم تحسبا لغياب «البديل المريح»، الذى يخلف المرأة الفولاذية وبمقدوره أن يصبح امتدادا لمسيرتها الشجاعة أقوالا وأفعالا!. فقد تميزت سنوات ميركل فى الحكم والزعامة بفكر مستنير، وجهود جبارة فى مواجهة الأزمات العالمية، التى هددت أركان البيت الأوروبى. ويعد أبرز ملف اصطدمت به القارة العجوز هو التغير المناخى، والذى تولت ميركل منذ وقت مبكر دورا رياديا، فى التعاطى مع تفاصيله وتطوراته الدراماتيكية، وقادت حملة فى أوروبا لخفض الانبعاثات، بعد أن أقنعت الرئيس الأمريكى الأسبق، جورج بوش الإبن، بوضع المناخ على رأس أجندته، وتدريجيا أحرزت ميركل تقدما إلى حد كبير فى مجال الطاقات المتجددة فى ألمانيا، والتى تمثل الآن نصف إنتاج الكهرباء. كما اتخذت خطوات جريئة على طريق «الهواء النظيف» فى القارة البيضاء. وكان الامتحان الثانى مع جائحة كورونا، لتنتهج ميركل خطة «حماية الأرواح»، رغم أنف سياسات اليمين الشعبوى، وأوضحت صحيفة «دير شبيجل»، أن ميركل بدت ضعيفة فى بداية الأزمة، وبالكاد استقطبت حكام الولايات لاتباع فلسفتها، ووصلت إلى مرحلة صعبة هددت فيها بالاستقالة، ومع مرور الوقت تحسن أداؤها كثيرا فى مواجهة الجائحة. وصارت تجربتها نموذجا يُحتذى من أقرانها الأوروبيين، لاحتواء تحورات الفيروس وعواقبه الوخيمة صحيا واقتصاديا. وأمام صدمة «البريكست»، التزمت ميركل بوحدة الصف والتفكير خارج الصندوق، فى ضخ دماء جديدة فى شرايين الكيان القديم، واتجهت إلى دول البلقان مؤكدة أن من مصلحة أوروبا الجيوستراتيجية قبول أعضاء جدد محل «المنفصلين»، لاسيما وأن منطقة البلقان تاريخيا مسرح صراع على النفوذ بين الغرب وروسيا، وتشهد حاليا فصلا ملتهبا من الأطماع الصينية فى التوسع والهيمنة، وبانضمام الدول الستة (ألبانيا والبوسنة والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وكوسوفو وصربيا) تقوى الشوكة الأوروبية، وأعطى الاتحاد الأوروبى فى مارس ٢٠٢٠ الضوء الأخضر لبدء مفاوضات الانضمام مع مقدونيا الشمالية وألبانيا. وهذه الورقة السياسية موضع مساومة وتسويف، وتحتاج إلى قوة دفع صارمة بحجم وثقل المستشارة الألمانية، فمن يكون قادرا على استكمال المشوار؟!. وجلست ميركل فوق الأعناق ابتهاجا واحتراما لموقفها الإنسانى من ملايين اللاجئين عبر البحر المتوسط إلى شواطئ أوروبا، واختارتها مجلة «التايم» الأمريكية شخصية العام فى ٢٠١٥، واحتفظت باللقب لعدة أعوام متتالية، اعترافا بدورها فى حماية الفقراء ومنكوبى الحروب من غدر البحر وويلات الحروب. وسددت ميركل ضريبة موقفها، من استياء وانتقادات دول الاتحاد الأوروبى، لتتراجع أحيانا.. وتتمسك بمبادئها أحيانا. وكانت الأزمة فرصة للحفاظ على «شعرة معاوية» بين برلين والعواصم الأوروبية.. ولم تفقد ميركل ذرة من احترام وتقدير كل الدول الأعضاء، منذ اندلاع الأزمة وحتى الوداع الأخير، رغم اختلاف الرؤية والاعتراض على الأسلوب.
وفى ٢٠٠٨، تجاوزت الأزمة المالية العالمية الولايات المتحدة سريعا لتعبر إلى أوروبا، وتنفذ إلى قلب ألمانيا. فلم ترضخ ميركل، وتوصلت إلى صفقة لتحمل مخاطر التخلف عن سداد القروض المتصلة بواحدة من أكبر الشركات العقارية فى البلاد. وانطلاقا من شفافيتها مع الشارع الألمانى، ظهرت أمام الكاميرات، وأكدت لمواطنيها أن ودائعهم آمنة، بعدما لجأ كثيرون لادخار أموالهم فى المنازل.. وضربت المثل فى إدارة الأزمة بمهارة. وبذات المنطق العقلانى، تعاملت ميركل مع أزمة اليورو، ولكن على نطاق أكثر اتساعا بتقوية القارة القديمة، ووضعها على قدم المنافسة مع الصين والولايات المتحدة، باعتبارها القوة الثالثة فى العالم. ولم يكن للاتحاد الأوروبى أن يصمد بصلابة آمام مخططات الدب الروسى بقيادة فلاديمير بوتين، والرئيس السابق دونالد ترامب إلا بوجود ميركل فى صورة «الحارس الأمين»، حينما تصدت بمفاوضات شاقة مع بوتين، لوقف إطلاق النار فى أوكرانيا عام ٢٠١٤ وتقويض سيناريو الاجتياح الروسى .. ثم تحولت بدرعها ضد سهام ترامب. وحاربت صعود التيارات اليمينية المتطرفة إلى السلطة فى أوروبا.ومع عودة المستشارة «الملتزمة» إلى منزلها، تركت خلفها أوروبا تبحث عن زعيم يتحلى بنفس صفات وحسن قيادة «ماما ميركل».