ما بعد الإنسانية.. غاية، يتضافر لمحاولة الوصول إليها طموح بعض العلماء، وأطماع بعض الشركات ورجال الأعمال، وأحلام قوى دولية، وقد تحدثت عن الجانب المضىء منها فى المقال السابق، أما الجانب الخطير من محاولة الوصول إلى ما يسمى (الإنسان2) أو (نسخة معدلة) للإنسان على حد زعمهم، فنتناوله فى السطور التالية.
من سبل تحقيق هذا الغرض، زرع شريحة داخل المخ، تستطيع السيطرة التامة على الشخص ليصبح مسلوب الإرادة، حيث يتم إرسال أوامر صوتية لمراكز السمع فينفذها دون نقاش. ومن ثم فإننا أمام سيطرة من الخارج على الدماغ البشري، أى سيطرة الآخرين على عقل الإنسان واستخدامه فى أعمال قد تتضمن ارتكاب الجرائم. وهو ما يسمى (حروب الجيل السابع) ليصبح الإنسان رقما مسلسلا ضمن قائمة من الأشخاص والآلات ينفذون الأوامر التى توجه لهم عن بعد، بشكل تلقائى دون تفكير. ربما أخطر المخاوف من هذا التطور هو انتقال مجال القرصنة من عالم الأجهزة الإلكترونية الى جسم الإنسان وعقله! بل ظهر فى عالم القرصنة مصطلح جديد يسمى (بيوهاكرز) أى القراصنة البيولوجيين، حيث تتم السيطرة على الجسم من خلال وضع شرائح الكترونية لامتلاك قدرات غير مطروقة من قبل، وهو ما تم بشكل عمدى بالفعل، حيث قام أحد المهووسين بهذه التقنية بذرع شريحة فى ذراع شخص آخر واصبح بإمكانه وهو فى مكتبه بالولايات المتحدة أن يتحكم فى ذراع ذلك الشخص المقيم فى لندن. ومن ثم فإن ما بعد الإنسانية أكثر من مجرد تطويرات تقنية تحصل للكائن البشرى، فهى تغيرات جذرية تجعله يغادر مرتبة الكينونة البشرية البيولوجية الكلاسيكية. بل إن المدلول الفلسفى (الأنطولوجي) (الوجودى) للكينونة البشرية ذاتها ستعادُ صياغته، بل سنشهد إعادة صياغة كلّ الأنساق البيولوجية والمعرفية التى تميّز الوجود البشرى الحالي. ومن هنا، تحدث بعض العلماء عن مفهوم نهاية الكائن البشرى الكلاسيكي.
وهناك مصطلح آخر شائع أيضا فى هذا الميدان، وهو الإنسانية العابرة (Transhumanism) وتمثّل جسرا بين الكائن البشرى الكلاسيكى الذى نعرفه، وعصر ما بعد الإنسانية، وتتحدّد بالتعزيز التقنى للقدرات البشرية.ويمكن تصوير الإنسانية العابرة للكائن البيولوجى الحالى غير المعزّز تقنياً بأنها توسِعة وامتداد لفكرة الإنسانية (humanism) ذاتها التى يبدو واضحاً أنّ الإنسانية العابرة مشتقّة جزئيا منها.
وفى هذا السياق ظهر مصطلح (سايبورج «cyborg») فى الأعمال الدرامية بالسينما والتليفزيون وتحديدا بعض أفلام الخيال العلمي، ويشير إلى كائن يتكون من مزيج من مكونات عضوية وبيو ــ ميكاترونية. بل أن هذا المصطلح (سايبورج) هو اسم أحد أعضاء فريق الجبابرة فى الأفلام الأمريكية: (نصف إنسان ونصف آلى) ومن قدراته الضرب بأشعة الليزر بواسطة يده والطيران، وإطلاق صواريخ إلى كوكب (أبوكاليبس). كما يمكنه أن يتحوّل إلى أى شىء. ويعتقد العالم الأمريكى راى كورزويل، الذى يوصف بأنه (المبشر بما بعد الإنسانية)، أنه بحلول عام 2029 سيعادل الذكاء الاصطناعى مستوى الجنس البشري. فى حين يرى ستيف فولر مؤلف كتاب (Humanity 2.0)، انه عام 2045، سيندمج الإنسان مع الذكاء الاصطناعي، مما سيسمح له بزيادة ذكائه مليار مرة. وربما يكون هذا مصير (سايبورج) الحقيقي. ويتخيل أنه فى عام 2070، قد تواجه الأم الشابة معضلة: هل تنجب طفلا عاديا أم تقوم بتحويل طفلها إلى (سايبورج). ويحذر من أن القيام بذلك هو قتل للطفل لأنه سيصبح مختلفًا تمامًا. وربما فى غضون بضعة عقود، سيتعين على البشرية أن تختار بين ما إذا كانت لا تزال هى الأنواع السائدة وذلك عن طريق وضع حدود للذكاء الاصطناعى أو تبنى خيار آخر. أما الوجه الخطير الثانى فيكمن فى أن هذه القدرات والإمكانات إذا تحققت، ستكون متاحة فقط للأثرياء، الذين سيطروا على أدمغة بقية الناس، وستكون لهم قدرات خارقة للعادة، وفى هذه الحالة لا نعلم ما الذى يمكن أن يفعله أصحاب القدرات فوق العادية فى بقية البشر وربما ستحدث حروب او استعباد من نوع جديد، وربما يريدون القضاء على البشر العاديين لانهم عبء على الأرض، لتبقى فقط بشرية الأثرياء، بشرية بعقول نصف إلكترونية وبلا أخلاق. فماذا نحن فاعلون؟!
(وللحديث بقية)