أقسم أنها هى.
لن تخطئها عينى التى رأت وعاينت، إنسانا من شحم ولحم، يرتعش كطفل أصابته الحمي، ومازال صوتها يتردد فى أذنى وهى تستجير بي.
بعد يوم عمل شاق وطويل غيرت رأيي، قررت عدم المبيت باستراحة الوحدة الصحية، إنها الثامنة مساءً تنقطع هنا الحياة، وتتوقف المواصلات من وإلى المدينة، كان عليَّ المغامرة واختصار المسافة المؤدية إلى الطريق الزراعي، لأستوقف أى سيارة تحملنى إلى المدينة، مشيت فوق مدق ضيق يشق زراعات الذرة، تحيط بى ظلمة متكاثفة وضباب خفيف، تألفهما مع الوقت عيناى وقد خففت منهما أنوار بعيدة، واهنة، يدندن الليل بمعزوفته، أصوات متداخلة لضفادع وصراصير غيط، وحفيف أوراق الذرة الخضراء، تحركها نسمات صيفية شحيحة، أحاول التغلب على مخاوفي، قصصٌ استدعتها ذاكرتى البعيدة ــ أيام طفولتي، قتلى تنتثر رءوسهم وأطرافهم المقطوعة وسط الزراعات، ورجال مختفين شدتهم النداهة، وعفاريت وجان تتشكل فى صورة قط أسود بعينين حمراوين أو حمار شارد.
المدق خالٍ من المارة أو العائدين من الحقول، أحاذر أن أصطدم بأى عائق ــ حجر أو ذراع مقطوعة، أو أن تنغرز قدمى فى أرض مروية للتو، أصداء أصوات آتية من بعيد، دق دفوف، رنين أجراس، غناء يصاحبه صوت ناى حزين، هيئ لى أننى أسمع نداء خافتاً، انتفضتُ فى مكاني، النداء يقترب، صار أكثر وضوحاً، صوت ناعم، مختنق، يكاد يخرج على استحياء: دكتور .. دكتور.
هل تحقق ما كنت أحسبه خيالاً؟ تنطلق الجنية ليلاً، تنفرد بمن يمشى وحيداً، تندهه بصوت غوايتها، يمشى وراءها مُسيراً دون مقاومة، لا حول له ولا قوة، يتبعها إلى عالمها السحري، الغامض، يدخلان مغارة سحيقة فى جوف الأرض، تطلعه على ما لم يره من قبل، يعيشان معا، يتزوجان، وينجبان أطفالاً يقفون عند الحافة، لا ينتمون لعالم الإنس أو الجان.
التفتُ، فتاة لا يبدو منها غير وجه أبيض، يشع نوراً وسط الظلام، ماذا عليَّ أن أفعل؟ وإلى أين أفر؟ أجرى منها، أراوغها، أختبئ وسط سيقان الذرة الطويلة، تثاقلت قدماي، ضاقت خطواتى، تباطأت وأنا استجمع شجاعتي، حاذت كتفى: خائفة .. خذنى معك.
لأول مرة أرى وجهها بمثل هذا القرب، عينان واسعتان تلمعان على بصيص شعاعات آتية من بعيد، لم يفصح الليل عن لونهما، وشفتان مكتنزتان لا تفارقهما ابتسامة طفولية، رائقة.
•تعرفينى.
•طبعاً .. أنت دكتور الوحدة.
تطايرت مع الهواء بعض خصلات من شعرها، انفلتت من طرحة خفيفة لفتها حول رأسها ووجهها، ومع تخافت دقات قلبي، وعودة الهدوء إليَّ، وتبدد مخاوفي، رأيتها من جديد، جمال ملائكى بريء، لا يخلو من الفتنة، كان صدرها يعلو ويهبط بسرعة وانتظام، مع رجرجة خفيفة بفعل الأرض غير المستوية تحتنا، وكأنه يكاد أن ينفلت من الخوف، همستْ:
•عندى رجاء.
سكتتْ لم تكملْ.
•تفضلى.
•لا تسألنى من أنا .. من أين أتيت وإلى أين أنا ذاهبة.
مشينا صامتين، أفكر فى أمر هذه الفتاة السائرة جوارى، أتخيل قصتها، هاربة من أهلها حتى لا تُجبرَ على الزواج ممن لا تحب، أخطأتْ وتريد الابتعاد بفضيحتها، توالت الأفكار والاحتمالات فى رأسي، وفجأة ارتفع عواء قريب، صرختْ، التصقتْ بى، ولفتْ ذراعها حول وسطي، أحسست بجسدها يرتجف، أمسكتُ يدها، ضغطتها بين أصابعى، أهدئها وأعطيها بعضاً من أمان، ارتعشت يدها باردة فى يدى.
واصلنا المسير، كانت أكثر قرباً مني، وكان جسدها رغم حرارة الصيف أكثر برودة، بدتْ لنا أضواء الطريق الزراعى قريبة، لا يفصلنا عنه غير شريط السكة الحديدية، مدتْ خطاها، تعبره، قبضتُ يدها، شددتها بعنف بعيداً عن القطار القادم بسرعة فائقة، فتحتُ يدى لم أجدْ إلا بعض شواشى الذرة الخضراء، نظرتُ إليها، لم أجدها، اختفتْ، انشقتْ الأرض وابتلعتها، صباح اليوم التالى كانت هى.
رأيتها ممددة فى سلام فوق كنبة بلدي، فى بيت ريفى فقير من الطوب اللبن، يندر وجوده فى أيامنا هذه، كانت مسبلة العينين، وارتسمت على شفتيها المكتنزتين نفس الابتسامة الرائقة، أقسم كانت هي، لم تكن وهماً، ما زلت أحس طراوة جسدها تنطبع على جسدي، وأرى نظرة عينيها الخائفة، وأستشعر برودة يدها فى يدى، أدرك الآن أنها برودة جسد ميت.
وضع كاتب الوحدة شهادة الوفاة أمامى على المكتب، كتبت بيد مرتعشة: هبوط حاد فى الدورة الدموية أدى إلى توقف وظائف المخ والأعضاء، ووقعت عليها بعينين غائمتين، لم تجعلانى أتبين حتى اسمها.