بعد عقدين من أطول حرب خاضتها عقب هجمات تنظيم القاعدة فى سبتمبر 2001م، تخرج أمريكا اليوم من أفغانستان زاعمة أنها حققت هدفها الرئيسى المتمثل فى هزيمة القاعدة بصرف النظر عن الإخفاقات المتعلقة بإقامة نموذج دولة تحترم الحريات والديمقراطية وعن الكوارث التى نتجت عن خطة الانسحاب الفاشلة؟
ينبغى عدم الخلط بين الانتصارات التكتيكية والأهداف الإستراتيجية، وإذا كان الغزو الأمريكى قبل عشرين سنة قد أزال مركز عمليات القاعدة الآمن الذى عثر عليه، بن لادن عقب تنفيذه تفجيرات السفارات الأمريكية فى نيروبى ودار السلام أغسطس 1998م وأفشل الصفقة التى عقدها التنظيم مع طالبان بحيث صارت الحركة الأفغانية وقتها هى الأرض والقاعدة هو الدولة، فإن هناك بالمقابل هدفا إستراتيجيا حققه بن لادن والذى خطط لضرب أمريكا ليس فحسب لإثبات مقدرة تنظيمه على ذلك، وأن القوة العظمى فى العالم يمكن أن تُستهدَف فى عمقها، إنما لفتح جبهات قتال مع أمريكا عبر جرها لساحات حروب ببلاد بعيدة يجهل الأمريكيون دروبها.
خطط قادة القاعدة لخلق زخم لحركات التكفير المسلح بعد الحرب الأفغانية فحتى صعود طالبان للسلطة وقتها لم ينقذ تلك الجماعات من التشرذم كما جرى فى الجزائر ومصر، كما أنها لم تحقق أدنى مكسب سياسى على الرغم من شنها هجمات إرهابية على مدى سنوات، وبهذا الاشتباك غير المنطقى بين جيش قوة كبرى وميليشيات تكفيرية بدائية التفكير والتسليح عثر القاعدة على مراكز تعبئة فى قلب العالم الإسلامى والعربى لخلق مبرر الوجود والصعود لكيانات كان مآلها الاندثار الذاتى تدريجيًا بعد الحرب الأفغانية.
يجنى القاعدة الآن ثمار سياسات النفس الطويل والتى مرت بمراحل أهمها خدش كبرياء أمريكا لتحصل على شرعية حضور عربيًا وإسلاميًا بوصفه الجهة التى جاهدت الدولة الكافرة التى غزت ديار المسلمين، ثم ممارسة الواقعية عقب ما عُرف بالربيع العربي2011م عبر توجيه الطاقات محليًا بنسخ تخلت عن الاسم وعن استهداف الغرب كما فى سوريا ومالى تاركًا داعش منذ 2015م وهو التنظيم المنبثق عنه يتلقى فورة الحملة الغربية لمكافحة الإرهاب بينما القاعدة يقوم بعملية إعادة بناء متمهلة.
بين هرولة أمريكا للغزو عام 2001م، وهرولتها للانسحاب عام 2021م، وفى كلتيهما بحث قادتها عن أهداف تكتيكية وعناوين إعلامية من قبيل القبض على بن لادن أو إحراز نصر سياسى سريع يفيد الديمقراطيين انتخابيًا كونهم من أنهوا أطول الحروب الأمريكية، استفاد القاعدة الذى عانى فى التوقيتين من تضاؤل أهميته وفرصه على المسرح العالمى.
لا يُقاس حضور القاعدة اليوم بمقاييس الماضى عندما كان يُعرف مدى قوته بحجم ونوعية عملياته الإرهابية، فالقاعدة اليوم اختلف جوهريًا عن المنظمة التى بناها بن لادن وتوسعت منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وهو الآن يبنى نسخًا محلية زاعمًا عبر مناورة تكتيكية تخليه عن الإرهاب العابر للحدود، ودون شك سيفيده الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، سواء على مستوى طرح نموذجه بعد أن هدمت الهرولة الأمريكية الإنجازات المدنية التى تحققت من خلق لبنة طبقة وسطى تتفاعل مع العالم بالأفكار وليس بالقنابل وتحجيم أمراء الحرب وقادة الجماعات فى الحياة العامة وتمكين المرأة من الدراسة والعمل، أو على المستوى الميدانى فدعايات الانتصار على أمريكا والفراغ الذى تركته والتنافس مع داعش يحفز القاعدة لإعادة بناء بنيته التحتية المحلية بأفغانستان.
احتاج القاعدة فقط نفسًا طويلًا واستفاد من أخطاء الإدارات الأمريكية ليجعل 11 سبتمبر قبل عشرين عامًا والآن فارقًا فى مسيرته وفى تاريخ أمريكا؛ مطبقًا مقولة هنرى كيسنجر: إن المتمردين يفوزون إذا لم يخسروا، وهذا يعنى أن كل ما يجب عليهم هو المكوث فى أماكنهم والمقاومة والانتظار حتى يفقد خصمهم الإرادة للاستمرار.