فى إحدى الزيارات إلى شنغهاى فبراير 2002 كانت هناك عملية إعادة بناء وسط المدينة التاريخى، بغرض تطويره بما يناسب الصعود الاقتصادى المتسارع فى البلاد. التقنيا آنذاك مع عمدة شنغهاى الذى شرح لنا كيف اتخذ القرار بمشاركة المواطنين أنفسهم، حيث تم تكليف عدة مجموعات متخصصة فى التخطيط العمرانى لوضع تصور لعملية التطوير، ثم تم عرض هذه التصميمات فى ساحة كبيرة لمدة شهرين، مزودة بصور تخيلية لما ستكون عليه المنطقة بعد التطوير وفقا لتصور كل مجموعة، وطُلب من المواطنين إبداء آرائهم فى تلك التصميمات. وخلال المدة المعلنة تم جمع عدة آلاف من الانتقادات والإضافات والتصورات البديلة من قبل المواطنين، وبعد عملية غربلة لتلك الاضافات، انتهى الأمر بوضع تصور جديد أكثر تطورا وشمولا، والأهم مراعاة لأسلوب حياة أهل المنطقة وتاريخهم الاجتماعى. ومرة ثانية عُرض هذا التصميم فى ساحة عامة لكى يفحصه المواطنون أنفسهم، وكان أن نال قدرا عاليا من الرضاء الشعبى، ثم بدأ تنفيذه فى ظل حالة من القبول العام. وبعد هذا الشرح المستفيض ذكر عمدة شنغهاى أنه ما دام الأمر يتعلق بحياة الناس، فمن الضرورى جدا أن يكون لهم دور مباشر فى اتخاذ القرار الذى يمس حياتهم، ويدعم المسئولين فى عملية التطوير الدائم.
السؤال المهم هنا: لماذا لا تكون لدينا نماذج فى الأطر المحلية تطبق النموذج الصينى على النحو المُشار إليه?، ولماذا يتجه بعض القائمين على تطبيق بعض القوانين باتخاذ قرارات تنفيذية حتى قبل أن تصدر اللوائح التنفيذية من الجهات الأعلى مثل ما حدث من أحد المحافظين بشأن فرض رسوم شهرية على أصحاب السيارات إذا أرادوا ركن سياراتهم أمام منازلهم، ومثل ما جرى من قبل حين اتخذت قرارات تنفيذية بدون تمهيد للرأى العام بشأن تسجيل العقارات وعدم الاعتراف بقانونية الملكيات من خلال التوكيلات؟ .
الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن يقودنا إلى عدة استنتاجات؛ أولها أن بعض القائمين على تشريع القوانين والمنوط بهم تنفيذها لا يعطون الرأى العام حقه فى معرفة ما الذى يتم إعداده لينظم حياة الناس، ويلجأون دائما إلى أسلوب الصدمة والمفاجأة. الأمر الثانى أن هؤلاء أيضا لا يدركون الفوارق الكبرى والهائلة بين طريقة إدارة الدولة فى ظل نظم معزولة عن مواطنيها، وبين إدارة الدولة فى ظل بيئة الاتصالات المفتوحة كحال مصر حاليا، والتى تعطى مساحة واسعة للرأى العام لكى يعبر عن نفسه ويحشد للدفاع عن حقه فى المعرفة وحقه فى رفض القوانين والإجراءات ذات الطابع التعسفى، وهى بيئة تؤدى فى حالة استمرار عزلة القائمين على التشريع والتنفيذ عن اتجاهات الرأى العام إلى حالة من اللبس والشروخ المجتمعية.
والأمر الثالث يتعلق بالعلاقة بين استقرار المجتمع وبين مستوى الرضاء لدى الطبقة الوسطى، والتى تمثل القاعدة الشعبية الحقيقية لاستقرار أى مجتمع، وكلما ارتفع مستوى رضاء تلك الطبقة، ارتفع مستوى الاستقرار مُصاحبة له قوة وتماسك المجتمع ككل. والعكس صحيح. ويلاحظ أن القرارات التى اتُخذت وأثارت الرأى العام من قبيل اجتهادات أحد المسئولين بشأن فرض رسوم لتخصيص أماكن لأصحاب السيارات أمام منازلهم، وبمخالفة صريحة لما يُعرف بقانون تنظيم عمل السايس، هى قرارات تمس مصالح رئيسية ولا يمكن الاستغناء عنها للطبقة الوسطى وحياة غالبية المصريين، والتى تشعر نسبة معتبرة منها بقدر متزايد من الاستياء. وجاء هذا القرار المثير ليضيف لديها منغصات مجتمعية أخرى، بداية من فرض رسوم غير قانونية تتصادم مع الدستور وبدون أى خدمة تقدمها الجهات الإدارية، ومرورا بالاشتباكات بين الجيران وبعضهم للاستحواذ على رقعة من الشارع لركن السيارة، وتحويل علاقاتهم الودية إلى علاقات عدائية بدون أى مبرر، وبالتالى رفع معدل التشتت الاجتماعى واللجوء إلى أقسام البوليس والمحاكم، وكأن مرفق القضاء بحاجة إلى المزيد من الأعباء والنظر فى مشاحنات بلا معنى، ونهاية بفتح أبواب من الفساد وابتزاز المواطنين فى الإدارات المحلية.
وهذه كلها تداعيات مجتمعية لن تساوى أبدا أى مبالغ قد تتحصل عليها الإدارات المحلية، والتى فى هذه الحالة ستكون بمثابة عامل يهدد أسس الاستقرار فى المجتمع, بسبب بعض القائمين على تنظيم حياة الناس. وبدلا من أن تجتهد تلك العقول فى إيجاد حلول وتبحث عن التوظيف الأمثل للموارد التى تحصل عليها من الميزانية العامة، كالاستثمار فى بناء جراجات جديدة تمتص حالة تشبع الشوارع والطرق بالسيارات، وتوفير المواصلات العامة بتكلفة معقولة تناسب دخول عموم المصريين، وإعادة تخطيط الشوارع والطرق بما ييسر الحركة أمام الجميع، فإذا بها تلجأ إلى اختراع إجراءات غريبة بدون أدنى اكتراث بالتأثيرات السلبية على الطبقتين الوسطى والفقيرة.
من المهم الإدراك أن مصر تمر بمرحلة انتقالية تنموية كبرى فرضت أعباء على المواطنين الذين ينتظرون بدورهم الاستفادة المباشرة من كل التضحيات التى قدموها فى السنوات الأخيرة. وبدلا من أن يكون كل المشرعين وكل التنفيذيين كفريق متجانس يحمى مصالح مصر والمصريين لاسيما الطبقة الوسطى عمود الخيمة، يتصرف بعضهم القليل بدون أى رشادة.