عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
مقاطع من سيرتى الأولى
20 أغسطس 2021
حسام المقدم


أذكرُ أنّ اثنين من الحُرَّاس الضِّخام سمحا لى بالدّخول.مدخل أنيق خافت الإضاءة، أبواب أبنوسية ومقابض مذهبة، هواء مُكيّف وسِجّاد أحمر، ما علاقتى بكل هذا؟ لماذا طلبوا حُضوري؟ ظهر رجُل له هَيبَة، أبيض الوجه بتقاطيع جادّة. رحَّبَ بى دون أن تلين ملامحه، بعدها دخل الخادم بالقهوة وكُوب الماء المُثلّج. تركتُه يلفُّ ويدور، يُطوِّف بموضوعات كُبرى لا أكاد أفهم المقصود منها. جاء على ذِكْر الشَّراكَة بيننا.. تعجّبتُ، قال إننى أمتلك أُذُنَين فائِقَتى الحساسِيّة، وفى استطاعتهما سَماع نبض النّملة! خرجت مِنّى ضحكَة لم أقدر على كتمها، هذه أوّل مرّة أعرف بوجود صوت لنبض النملة، وليس دَبّة النملة كما يقولون دائما، ومن المُفاجِئ جدا أننى أمتلك موهبة سمعية فريدة فى التمييز بينهما! اقترحَ الرجل، حِرصًا على وقتى، أن أترك له الأمر، وحين وافقتُ طلبَ أن أذهب إلى الحُجرة الأخيرة على اليمين، وهناك سيفعلون اللازِم.



تركتُ أُذُنىّ هناك.



فى مرات لاحقة قالوا إن أصابعى تمتلك خِفّة عازف بيانو وبراعة جَرّاح، أخبرونى عن ذِراعى وما فيه من معجزات، لسانى ومنطقى الجارى بالدُّرَر، وعندما وصلوا إلى رِجْلَيَّ، ولم أعُد أتمكَّن من زيارتهم، أرسلوا إليَّ مَنْ ينقلُنى إليهم.



تركوا لى عينيَّ،



لم يُريدوا أن يأخذوهما.



...............



رأيتُه يعبُرُ الميدان الشهير فى المدينة.



قطعتُ طريقه، واقفًا فى مُواجهته. لم أتفاجَأ حين نطقَ كلٌّ منّا اسم الآخر فى نفس اللحظة، غِبنا فى أحضان بِطَعم ورائحة سنوات الغياب.



بادرتُه: «يااااه، تقريبا شكلك لم يتغير، لولا شَعركَ نِصفه أبيض لكُنتَ كما أنتَ، ما أخبارك؟».



«والله ماشى الحال، سافرتُ كثيرا حتى زهقتُ وقعدتُ، وأنتَ ما أخبارك؟»



«ماشية الدنيا، أيام فوق وأيام تحت».



«والشغل والأولاد؟»



«عادى، أصحو فى الصباح، وأضع رِجْلى على تِرس يدور بى إلى أن يأتى الليل».



«كأنّكَ تتكلَّم عَنّى».



«فى عينيك لا تزال نفس النظرة السّارِحة».



«لا أظن، هل أبدو هكذا فِعلا؟».



«لن أُعطِّلك، قُل رقم موبايلك».



أملَانى الأرقام، سجّلتُها على تليفونى.



سلَّمَ عليَّ مُشدِّدًا: «سنتكلَّم».



«طبعا أكيد، سلام»



«مع السلامة».



التفتُّ مرّتين بعد أن مضى، وفى الثالثة غاب عن نظَرى.



...............



سألتُ كثيرا: لماذا يتجمّع أصحاب المَعَاشات على هذا المقهى بالذات؟ من الغريب أن يُشكّل العجائز غالبية دائمة وسط الجالسين. لستُ من زبائن المكان، لكنّ السؤال يشغلُنى عندما أجد نفسى حولهم.



حديثهم قليل، صوت مُكعّب النَّرد وفرقعاته على رُقعة الطّاولة؛ دليل على وجودهم. تصطف بجوارهم أكواب الحلبة والشاى بالنّعناع.



فى العادة لا تدوم جلستى طويلا، أشرب قهوتى وأمشى. بالأمس فقط طال قُعودى أكثر من المعتاد..



كنتُ فى شُرودى أتأمّلهم، حين فوجئتُ بمُكعّب النرد الصغير، يطير عاليا وينزل مُستقرّا فى جَيب قميصى! تحسستُه برفق، تركتُه نائمًا فى أمان، بينما هم يُفتشون فى حيرة تحت التّربيزات والكراسى. بحثوا ومصمَصوا الشِّفاه، ضربوا أَيديهم عجبا من هذا العفريت الذى اختفى.



توقَّفوا عن اللعب.



فكرتُ أن أُخرِجه من جيبى، أقفُ مُشيرًا به من بعيد، ثم أجرى مُنطلقا بأقصى سرعتى!



بقيتُ فى مكانى، طلبتُ قهوة أخرى، شربتُها على مهل، مُتأمّلًا حلقتهم الصّامتة، وأذرعهم المعقودة فوق كُروشِهم.



انصرفتُ، وفى نِيَّتى أن أُعاود الرُّجوع إلى المقهى كل فترة، ساعِيًا وراء شبح إجابة عن سؤالى العويص.



...............



أحملُ جِوالا ثقيلا على كَتفى، جِوالا مملوءا بالعِظام. حَذَّرونى من الغَفلَة ولو ثانية: «هذه عِظام تفوق قيمتها الكثير من الأجساد الحيَّة».



أسير على طريق ترابى فى قلب الغيطان، على اليمين والشِّمال أنوار القُرى القريبة والبعيدة. لِمَنْ هذه العظام حتى يهتمُّوا بها هكذا؟ لو هى بالأهمية المذكورة ما سلَّموها إلى شخص وحيد، ليس معه ما يُدافع به عن نفسه.



أنزلتُ الجوال، وقعدتُ أرتاح. تحسستُ صلابة وحِدّة ما أحمل، ضحكتُ على حُمقِى.. إنها مجرد عِظام. فتحتُ الكَنز المزعوم، أخرجتُ عظمَة طويلة، ضحكتُ، قلتُ إنها فَخذ هِتلر.. «فكَّرتُ أنه مجنون أشعَلَ العالم»، تأملتُ كَوْمَة أخرى رُحتُ أُفنِّدها على مِزاجي: ذِراع أينشتين.. «قرأتُ أنه عبقرى لم يُحب إلا نفسه»، ضِلع من ضُلوع نابُليون.. «هل حقا كان يعود من حُروبه الهائلة ليقعد تحت أقدام زوجته جُوزفين؟»، القفص الصّدرى لمحمد على باشا.. «تذكرتُ أنه رقصَ فَرحًا حين عرف بوفاة محمد بك الألفى الرجل القوى وأحد زعماء المماليك».



أعدتُّ رَصّها، طرِبتُ من لُعبتى مع الأسماء، تذكرتُ أننى نسيتُ فُلانا وفلانا. انتبهتُ على خاطر أن العظام ربما تكون لأولياء، يجرى نقل رُفاتهم الطاهرة إلى مكان آخر.



خفَّفتُ خُطواتى رِفقا بما أحمل فوق ظهرى، ولمّا أظلم طريقى تماما وقفتُ بلا حركة. أخاف أن أدوس على كلب نائم أو ثعبان أو أى شيء. بعد تَردُّد رفعتُ قدمى، أنزلتُها على الأرض، واستويتُ ثابتا. فى المرة الثانية وجدتُنى أغوص فى ماء بارد، أهبط فى التّرعة حتى نِصفى، تمسّكتُ بحشائش وعيدان غاب على الشّط، أين الجِوال؟ عرفتُ أنه سبقنى إلى الأعماق، مَددتُ رِجلى مُفتّشا تحت الماء الثقيل، لا شىء، ماذا أقول لهم عن إهمالي؟ هل أنتظر إلى الصباح وأبحث من جديد؟



ابتسمتُ لفكرة أنّ العظام صاحبة المقام الرّفيع ربما ذهبت إلى قبرها، واختارتْ مصيرها بنفسها.



نزعتُ جسدى من الماء، رحتُ أُجفّف وأعصِرُ ملابسى، ثم نهضتُّ راجِعًا.