أيام قليلة وربما ساعات محدودة وتسيطر حركة طالبان على العاصمة الافغانية كابول، لتنهى بذلك مرحلة الوجود الامريكى الغربى فى البلاد، وتبدأ مرحلة اخرى ستلقى بتداعياتها على الكثير من القضايا والاشكاليات الأمنية والاستراتيجية إقليميا ودوليا. فالطريقة التى تقدمت بها طالبان فى غضون أقل من اسبوعين، حيث تهاوت المدن فى أيدى مسلحيها، وغابت أدنى تحركات المقاومة من قوات الجيش الأفغانى وقوات الأمن، تعكس ما يمكن وصفه بالاتفاقات المسبقة بين الكثير من قيادات الجيش والامن وحكام الولايات والمديريات وبين قيادة طالبان، على أن يتم التسليم دون قتال ربما مقابل عفو أو إطلاق سراح. وهو ما كان زعيم طالبان هبة الله اخوند زادة قد ألمح إليه فى أحد بياناته مطلع عمليات التمدد العسكرى فى الولايات المختلفة، بأن باب العفو والتسامح موجود لمن يلقى سلاحه ويقبل التعاون مع حركته فى حكم البلاد. وبالقطع فإن الذين قبلوا هذا التعاون لديهم أسبابهم، التى تبدأ من عدم إيمانهم بقيادتهم السياسية والعسكرية، وتنتهى بأنهم يحملون، وهذا غالبا، نفس أفكار حركة طالبان، ولا يجدون أى مبرر لمقاومتها لمصلحة حكومة مشهور عنها الفساد والانقسامات والتركيز على المناصب. والمؤكد أن كثيرا من القصص والأسرار سوف تُعرف لاحقا حول الضغوط والإغراءات التى مارستها طالبان على القيادات العسكرية والمدنية من أجل التخلى عن حكومة الرئيس أشرف غني، باعتبارها عميلة للأجانب. ويثير الأمر برمته قضية مهمة تتعلق بفشل السياسات التى اتبعتها الولايات فى إعادة بناء أفغانستان، وهو فشل عائد إلى عدم استيعاب المخططين الأمريكيين للمنظومة القيمية السائدة فى البلاد وموقع الدين الإسلامى منها، فضلا عن الفشل الذريع فى بناء مؤسسات فعالة بلا فساد. أما إعادة هيكلة الجيش الأفغانى وتغيير عقيدته القتالية وإحلال أسلحته المختلفة البرية والجوية من كونها روسية الصنع منذ سنوات بعيدة واعتاد عليها الجنود والضباط والفنيون والطيارون، إلى أسلحة أمريكية يتم تزويدها بالأسلحة والذخائر وعمليات الصيانة من خلال موردين محددين، يحددهم البنتاجون، وهو الاسلوب المتبع فى الجيش الأمريكى بكل أسلحته وقطاعاته، فقد تبين أنها عملية لا تناسب إطلاقا البنية العسكرية للجيش الافغانى ذات الجذور التاريخية، وأنها افتقدت بناء عقيدة قتالية من أجل الوطن والدولة والمؤسسات الشرعية، ومن ثم جاء هروب الجنود والضباط من مواقعهم، ولجوء بعض القوات التى كانت على مقربة من حدود دول الجوار الشمالى والغربى الى تلك الدول طلبا للحماية، ليعكس غياب العقيدة الوطنية للجيش. لقد جاء أسلوب الانسحاب الامريكى وانسحاب القوات الدولية والناتو، بعيدا عن أدنى درجات التنسيق مع الجيش الأفغاني، ما أتاح لمسلحى طالبان الاستيلاء على كميات هائلة من الاسلحة الامريكية بدلا من أن يتم تسليمها الى الجيش الأفغانى وتدريب الأفراد عليها. ولا تخلو عملية الانسحاب من مظاهر تثير الريبة والشكوك فى أن الإدارة الأمريكية لم تكن تثق فى قيادات الجيش الأفغانى ولا قيادات الحكومة، وأنها فضلت الانسحاب سرا وليكن ما يكون، أو ربما بتنسيق مع حركة طالبان نفسها مقابل ألا تقوم الحركة بمهاجمة القوات الامريكية فى أثناء الانسحاب. وإن صدق هذا التفسير، فدلالته ان الولايات المتحدة كانت تعد نفسها للتعامل مع حركة طالبان كحاكم للبلاد دون أى تحفظات، ما أعطى الحركة قدرا كبيرا من الثقة للاندفاع المتزامن نحو اكثر من مدينة وولاية، والاستيلاء عليها فى وقت قياسي، وهو مأ أكد فشل تقديرات الاستخبارات الامريكية فشلا ذريعا، التى افترضت أن حكومة أشرف غنى يمكنها الصمود ستة أشهر أواكثر. المرجح أن الأمريكيين كانت لديهم تصورات مسبقة، ولكن دون أدلة يقينية أو ضمانات فعلية، بأن الحركة سوف تلتزم بتقاسم السلطة مع حكومة أشرف غني. وهى تصورات تلاعبت بها قيادة طالبان، التى استطاعت خداع المفاوض الأمريكى، كما استطاعت إرسال رسائل طمأنة لدول الجوار، بأن كل ما تريده الحركة هو إقامة حكم إسلامى نقى وفقا لتعبيرات الملا هبة الله اخوند زادة زعيم طالبان، وتعهده بالتسامح مع الجميع، فى حال أثبتوا ندمهم على التعامل مع الأجانب. إن سقوط كابول الوشيك، وربما من خلال عملية تسليم من قبل الرئيس أشرف غني، على أن يقدم استقالته وضمانات أمريكية بعدم تعرضه لعقاب من الحكم الجديد، وربما السماح له بمغادرة البلاد كلاجئ سياسى فى بلد أوروبى أو خليجي، لن ينهى الازمة فى افغانستان. صحيح أن طالبان ستكون لها السيادة المطلقة، لكن السيطرة الكاملة والاستقرار الموعود لن يتحقق على النحو الذى تبشر به الدعاية الطالبانية. فحكومة طالبان سوف تكون تحت أنواع من المتابعة والرقابة الدولية للطريقة التى ستقود بها البلاد، لاسيما المدى الذى سوف تسمح به لأنشطة جماعات مصنفة إرهابية عالميا، مثل القاعدة الموجودة فى أماكن سيطرة طالبان، وفروعها المحلية المنتشرة فى اكثر من بلد اسيوى وافريقي. ومعروف أن أيمن الظواهرى زعيم القاعدة قد بايع عام 2017 الملا هبة الله اخوند زادة زعيم طالبان، وهى المبايعة التى تعنى الخضوع والانصياع والالتزام بما تقره قيادة الحركة، فضلا عن المساهمة فى أعمالها العسكرية ضد القوات الامريكية. كذلك تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، الذى اعلن فى بيانات له دعمه الفعلى لحركة طالبان باعتبارهما يستهدفان نصرة الإسلام والجهاد ضد الغزاة. انتصار طالبان سوف يوفر مساحة ثقة بالنفس للكثير من التنظيمات الإرهابية، حيث شكلت لهم نموذجا فى العنف والقتال حتى الانتصار والسيطرة على حكم البلاد، وهو ما أكده الملا هبة الله بعد توقيع الاتفاق 2020 مع أمريكا فى الدوحة، داعيا تلك التنظيمات لكى يحذوا حذو طالبان.