«ها أنا ذا مرة ثانية غارقة فى الحوض.. أكاد لا أفارقه ثانية! غسل الخضر.. الفاكهة.. الصحون. أوانى التعبئة. الأيدى.. تعقيم كل شىء.. كل يوم.. كل هذه الأطباق. مساحيق التنظيف والمطهرات.. الحوض بكل تفاصيله بات يطاردنى حتى فى نومى ويفقدنى توازنى فى ساعات صحوى.. خلايا مخى تشبعت ... أليس هناك نهاية لهذا الوباء؟ أغسل المزيد والمزيد».
لعل السطور السابقة تعبير عما دار بخلد معظمنا، وتحديدا صاحبات التاء المربوطة منذ بدأت جائحة «كورونا»، وهى تطبيق عملى معاكس للنصيحة الكلاسيكية المعتادة للخروج من الأزمات، ومغالبة المعاناة النفسية بالتشاغل عن المشكلة، والانغماس فى أنشطة مختلفة، لتفادى التفكير فيها أو تجاهلها تماما وكأنها لم تحدث مطلقا. فحالة البوح أعلاه تتسق تماما مع التقنية التى يقترحها بعض خبراء علم النفس، للتخلص من التوتر النفسى وتفريغ الطاقة السلبية، بالكتابة والإغراق فى أدق التفاصيل المادية والنفسية التى خلفتها جائحة «كورونا» على البشر، بغض النظر عن النوع والمكان.
وبرغم غرابة فكرة التأثير الإيجابى لاجترار التجارب السلبية وتسجيلها كتابةً، بل ربما مجافاتها للمنطق السائد، فإن بعض علماء النفس يعتقدون أن سرد قصة حدث سلبى سابق ومايسبب قلقا، يحرر النفس مما يثقلها ويحمى العقل، خاصة بعد أن كشفت دراسات عدة أن الصدمات والأحداث الجسام تدمر أنسجة المخ!
فى هذا السياق طرح البعض فرضية أن البوح والتعبير عن التجارب المؤلمة بالكتابة يغير طريقة تنظيمها فى العقل، والتعامل معها، ويحجم المبالغات العاطفية، ما يقلل التوتر والقلق والاكتئاب ويحسن النوم والتركيز، على الصعيدين الشخصى والمهنى.
وفى كتابه «فن مواجهة الأزمات» يوضح الطبيب النفسى «بوريس سيرولينك» أن ممارسة الهوايات كالرسم، أو سماع الموسيقى أو الكتابة، يمكن أن تساعد الإنسان على أن يتجاوز الصدمات، موضحا أن هذه الوسائل تساعد على كشف موطن وسبب الألم داخل النفس والتخلص منه نهائيا.
فى ذات السياق تنصحنا «جينا ديبونيو» المدير السابق لأستوديو شيكاغو للكتاب ، بالتعمق فى كتابة التفاصيل للوصول إلى أعماق المشاعر وصدق التجربة، فتقول: «دع عقلك يتنقل بحرية ليلتقط اللحظات الصغيرة، والتفاصيل الدقيقة. القوة تكمن فى التفاصيل ومن خلالها يمكنك الوصول إلى ما حدث بالفعل، فأصغر التفاصيل قد تبرز أكبر حقيقة أو شعور وتلقطت التجربة فى اتساعها وعمقها وهو ذات الأمر الذى أكدته الكاتبة «جوان ديديون» إذا كتبت: «لا أعرف ما أفكر به حتى أكتبه».
من هذا المنظور يمكن تعريف الكتابة التعبيرية المقترحة بأنها «تلك الكتابة التى تساعدنا على فهم أفكارنا وعواطفنا، وأنها يمكن أن تأخذ أشكالًا مختلفة، كاليوميات والمذكرات والشعر وحتى مقالات الرأى أو الأفكار». وبغض النظر عن المعايير الإبداعية، فإن الشكل فى هذا السياق يفقد أهميته، مقارنة بقيمة وجدوى ما نسطر. فالمطلوب تحديدا أن تتضمن السطور تفاصيل محددة أصلية وصريحة، وأن يعبر الكاتب عن مشاعره ليروى القصة كاملة.
وتوضح «لويز ديسالفو» فى كتابها «الكتابة كطريقة للشفاء فى السرد» أن هذه الكتابة تحول الكاتب من ضحية إلى كيان قوى لديه القدرة على الملاحظة. فعندما نكتب للتعبير ولفهم معنى ما، نستعيد قدرًا من الفاعلية.
والآن ـ عزيزى القارئ ـ إذا كنت مهتمًا بتجربة الكتابة كأداة للشفاء، فما عليك إلا اتباع الخطوات التالية التى اقترحها الخبراء ومحاولة تطبيقها:
فكر فى شىء واحد أو لحظة عايشتها فى هذا الوباء واستعن بكل حواسك لتستشعر الملمس وتشم الرائحة.. الآن، اكتب الكلمات والملاحظات والعبارات والجمل عن اللحظات التى تركت بصمتها على نفسك، مؤلمة كانت أم سارة! لا تقلقك القواعد النحوية أو الإملائية أو رأى الآخرين فيما سطرت، سواء أكان جيدًا أم عبثيا، فهذه كتابة حرة مرتبطة بهدفها.
وأخيرا.. أحيلك ـ عزيزى القارئ ـ للفقرة الأولى فى المقال، لتقرأ تطبيقا عمليا لتجربتى مع القلم للتعافى من العزل والخوف من «الكورونا».