عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
«حبة الغلة» تحت قبة البرلمان
30 يوليو 2021
تحقيق ــ إبراهيم العشماوى [إشراف علا عامر]
فوسفيد الألمونيوم مبيد زراعى يساء استخدامه



  • طلبات إحاطة لمنع استيرادها.. ودعوات لتقنين بيعها


  • النائب هشام الحصرى: موجودة فى كل الدول وحوادث التسمم والوفاة ليست مبررا لمنعها


  • النائبة أمل سلامة: البيع «للكبار فقط».. والصرف بالرقم القومى


  • د. سحر الدكرورى: نحو 370 ألفا يموتون سنويا فى العالم بسبب تناول المبيدات


  • د. هالة البرعى: مطلوب توعية الأسر والمراهقين بأهمية المشورة النفسية



 



 



سنوات طويلة مرت على اكتشاف فاعلية مركب «فوسفيد الألمونيوم»، فى حماية الحبوب الزراعية والغلال فى الصوامع والمخازن، من تسلل الحشرات إليها وغزو الآفات. حبة صغيرة لا يزيد وزنها على بضعة مليجرامات وثمنها جنيه واحد، حملت هذا المركب تحت مسميات تجارية متعددة، واشتهرت باسم «حبة الغلة»، فإذا بها تصبح ـ ولأسباب غير واضحة تماما - مثار رعب فى كثير من البيوت الريفية، وعنوانا مكررا فى صفحات الحوادث، لتتحمل قسرا من الرأى العام مسئولية عشرات الوفيات ما بين تسمم أو انتحار، ما دعا مجلس النواب لإثارة القضية ما بين مطالب بالمنع، ومابين مستنكر له، كما دعانا أيضا لطرحها.. بحثا عن السبب الحقيقى لجعل «مبيد زراعى»، يثير كل هذه الضجة الصحية والمجتمعية.



نبدأ من أحدث وقائع التسمم بتلك الحبة من محافظة المنوفية، وتحديدا الطالبة آلاء حبيب، والملقبة بـ «حافظة القرآن»، والتى احتلت صورها وأخبارها بكثافة مواقع التواصل الاجتماعى فى الأيام القليلة الماضية، بسبب وفاتها عقب وعكة صحية مفاجئة أصابتها، ليكشف والدها فيما بعد عن تناولها تلك الحبة القاتلة عن طريق الخطأ، ولم تنجح للأسف محاولات إسعاف «آلاء»، لتنضم إلى طابور من الضحايا - إذا جاز التعبير - لتلك الحبة. وفى محافظة أخرى من محافظات الدلتا، وهى محافظة الدقهلية أمكننا رصد - ومن خلال المحاضر والبلاغات الرسمية - نحو 23 حالة وفاة فى الشهرين الماضيين فقط.






ووفقا للمدون حول قصص وأسباب تناول الحبة، فهى إما كنوع من الخطأ كما يحدث غالبا مع الصغار والأطفال وأحيانا الكبار، وإما بقصد الانتحار عقب مشاجرات زوجية عنيفة أو وقوع الطلاق، أو للتهديد بالانتحار خاصة من قبل المراهقين، إثر خلاف مع الأهل أو أحد الوالدين، ولكن الحقيقة أن سمية هذه الحبة لا تدع مجالا للخطأ أو التهديد، ولا تتيح أى فرصة للتراجع أو الإنقاذ، إذ تتسبب فى حدوث الوفاة خلال ساعة على الأكثر، وهو ما دعانا لسؤال الدكتورة سحر الدكرورى، أستاذ الطب الشرعى والسموم الإكلينيكية بطب المنصورة، ومدير معمل السموم بمستشفى الطوارئ، بحثا عن تفسير لأسرار نسبة الوفيات العالية لـ «حبة الغلة»، والتى أوضحت أن التسمم بهذه المركبات يحدث إما مباشرة سواء من خلال تناول متعمد، أو غير مباشر من خلال استنشاق عرضى لغاز الفوسفين المنطلق من الحبة، والذى يتفاعل بشدة وبسرعة مع محتوى المعدة الحمضى حالة ابتلاعه، لكونه غازا شديد السمية يتسبب فى حدوث تسمم حاد، يصيب جميع أجهزة الجسم مثل القلب والكبد والكلي، وتختلف أعراضه السريرية تبعا للجرعة والمسار ومدة التعرض، وتبدأ على الفور فى الجهاز الهضمى بحالة قىء مستمر وإسهال حاد، كما يحدث فشلا فى عضلة القلب وانهيارا للأوعية الدموية، وتظهر كذلك أعراض سمية الجهاز التنفسى، بحدوث ضيق شديد فى التنفس.



وتنبه د. الدكرورى إلى أن علاج تسمم «فوسفيد الألومنيوم» يعتمد أساسا على العلاج التحفظى بسبب عدم وجود ترياق محدد، من خلال إجراء غسيل سريع للمعدة بـ»بيكربونات الصوديوم»، التى تمنع إطلاق غاز الفوسفين،  كما يمكن أيضا استخدام زيت جوز الهند الذى يحدث التأثير نفسه، فى حين يكون ممنوعا منعا باتا استخدام الماء، حيث يحظر على المريض شرب الماء، لأنه يساعد على إطلاق غاز الفوسفين المميت بداخل جسده، أما العلاجات الأخرى فيمكن تزويد المغنيسيوم والدوبياتومين لعلاج اضطرابات القلب، وتزويد الكالسيوم فى العلاج لأن التسمم بحبة الغلة يمكن أن يصاحبه نقص الكالسيوم فى الدم، وعلاج حموضة الدم جزء مهم من نظام العلاج.



وتعتبر الدكتورة سحر الدكرورى أن المبيدات بصفة عامة تعتبر مشكلة تواجه العالم كله، مشيرة إلى أن  هناك ما بين 250 ألفا إلى 370 ألفا شخص يموتون سنويا بسبب التناول المتعمد للمبيدات، والتى تعد مسئولة عن حوالى ثلث محاولات الانتحار فى جميع أنحاء العالم.



وتكشف الدكرورى عن أرقام صادمة، فتقول إن وحدة علاج السموم فى مستشفى الطوارئ بالمنصورة، استقبلت فى عامى 2018 و2019 نحو 400 حالة من المبيدات أغلبها تسمم بحبة الغلة، كما استقبلت الوحدة نفسها فى عام 2020 نحو 118حالة أخرى، أى 518 حالة فى 3 سنوات فقط .



الوضع قانونى



وقد قامت «الأهرام» بجولة بين عدد من محال بيع المبيدات الزراعية، والتى يدخل ضمن نشاطها بالطبع بيع تلك الحبة الزهيدة الثمن، وبينما رفض عدد من أصحاب تلك المحال مجرد الحديث عن تلك الحبة، منكرين تعاملهم فيها بالبيع والشراء، كما ذكرسعد عطية من نبروه، موضحا أن الفلاحين أصبحوا يتعاملون مع بدائل أخرى، منها تراب الحريق أو بودرة ميلاسيد 1%، لكن محمد الديب (تاجر مبيدات) أكد أنها موجودة لدى الكل، ويتم بيع الأنبوبة المحتوية على 35 قرصا بنحو 20 جنيها، مضيفا: نحضرها بالطلب للفلاحين، ونرفض بيعها لطفل صغير أو مراهق حتى لايساء استخدامها.



ومما يذكر أن حبة الغلة القاتلة يتم استيرادها من الهند والصين، اسمها العلمى «فوسفيد الألومنيوم»، وتباع فى محال المبيدات الزراعية والصيدليات البيطرية، تحت أكثر من عشرة مسميات تجارية بأسماء مختلفة. وتعتبر من مبيدات التدخين أى التى يخرج منها دخان أو غاز، يتخلل أجواء المكان المغلق كصوامع القمح والغلال، فيقضى على الحشرات التى قد تتواجد فى الشقوق. ومع شيوع استخدامها أصبحت موجودة تقريبا فى كل بيت ريفى، ورغم سميتها إلا أن استخدامها بهذه الطريقة لايضر بصحة الإنسان، لأنها مجرد غازات تتبخر بعد فترة دون أن تترك أثرا، لكن الخطورة تكمن فى التعامل معها دون وعى أو اتخاذ احتياطات، و تسجل وزارة الزراعة المصرية حبة الغلة كمبيد حشري، يدخل مصر بشكل رسمي، ولا توجد أية محاذير لتداوله، وتدوّن عليها عبارة «عالية السمية» .



تنظيم التداول



محمد عبدالغنى شادي، شاب من (بنى عبيد) التابعة لمحافظة الدقهلية، لاحظ منذ سنوات تكرار حالات الانتحار فى مدينته بسبب حبة الغلة، فقام بنشاط مكثف لدى الأجهزة التنفيذية لمنع تداولها، وأسس مبادرة للتوعية بخطورتها بعنوان «لا لبيع حبة الغلة القاتلة».



يقول شادي: من السهل أن تتوجه إلى أقرب محل مبيدات زراعية وتشترى منه أنبوبة بها عشرين حبة كما فعلت أنا، موضحا أن حملته التى سانده فيها نفر من شباب المدينة، أثمرت تحركا تمثل فى تشكيل لجنة لمراقبة بيع حبة الغلة، مكونة من مساعد رئيس مركز ومدينة بنى عبيد رئيسا، وعضوية كل من مندوب عن الإدارة الزراعية ومندوب الطب البيطرى ومدير إدارة شئون البيئة، برئاسة المركز ومندوب عن الإدارة التموينية، وذلك لتنظيم بيع هذه الحبة القاتلة كحل مؤقت، على أن يتم عمل سجلات فى الأماكن التى يباع بها هذا المبيد السام، يدون بها اسم المشترى لهذه الحبة ورقمه القومى مع منع بيعها لصغار السن أو الشباب وتباع للكبار فقط، مع أخذ تعهد على المشترى بتحمل المسئولية.



مناقشات فى البرلمان



ولأن الأمر لا يخص محافظة بعينها، كان الموضوع مثار اهتمام من مجلس النواب، وإن كان الأمر لم يخل من جدل بين حماس شديد من بعض الأعضاء لمنع تداول حبة الغلة، وقناعة آخرين ببراءتها من كل التهم.



النائب هشام الحصري، رئيس لجنة الزراعة والرى فى مجلس النواب، قال: أحضرنا كل أطراف الموضوع وخاصة لجنة المبيدات بوزارة الزراعة، وتأكدنا من أن حبة الغلة أقراص موجودة فى كل دول العالم، وليس لها بديل حاليا لتخزين الحبوب وخصوصا القمح، وليس هناك مبرر منطقى لمنعها، بزعم أنها سبب فى وفاة العشرات أو المئات، مضيفا: أى حاجة تستخدم فى غير غرضها المعدة.. له طبيعى أن يكون لها آثار سلبية، فسم الفئران مثلا يمكن أن يقتل أيضا، وكذلك الأدوية يمكن أن تُميت إذا تم تناولها بكميات.



وطلب «الحصرى» أن يتم البحث عن أسباب الانتحار، والتوعية بخطورة وضع الحبة فى البيت وسط الأطفال والمراهقين، ومشاركة كل أجهزة الدولة فى معالجة قضية الانتحاربها، والاهتمام بدور الإعلام والإخصائى الاجتماعى والنفسى وخطباء المنابر والأطباء، بدلا من البحث عن إيقاف إستيراد الحبة فى غياب بديل لها، لكنه من ناحية أخرى - يؤيد وضع ضوابط لاستخدامها، وأن تكون فى الأماكن المصرح ببيعها فيها فقط، لافتا إلى أن هناك شركات تخزين وبنوك تنمية تستورد قمحا وتخزنه وتستخدم حبة الغلة والتى تدخل كمياتها بموافقات إستيرادية ولجان.



وكانت لجنة الزراعة والرى بمجلس النواب، قد أوصت بتفعيل الضوابط التى اتخذتها من قبل لجنة المبيدات الزراعية، فيما يخص تقنين استخدام الأقراص المستخدمة فى تخزين الغلال، وتشديد الرقابة على محلات المبيدات وغيرها من المحال التى تبيع تلك الأقراص، وتحرير محاضر للمخالفين، كما طلبت إفادة اللجنة ببيان من وزارة الصحة والطب الشرعى بوزارة العدل، عن الحالات التى توفيت بسبب استخدام تلك الأقراص، وبيان من وزارة الزراعة عن الكميات التى تم ضبطها من الأقراص بالمخالفة للضوابط.  وأوصت اللجنة أيضا بتكثيف الحملات من جانب وزارتى الزراعة والصحة لتقنين استخدام تلك الأقراص، وكذلك أوصت وزارة الأوقاف بإثارة خطورة استخدام تلك الأقراص عبر منابر المساجد، وتوعية الشباب من خطورة استخدامها لاسيما أن الانتحار أمر محرم شرعا.



للكبار فقط



وعلى الجانب الآخر، تقدمت النائبة أمل سلامة، عضو لجنة الإعلام بمجلس النواب، بطلب إحاطة مؤخرا إلى رئيس مجلس النواب، موجه إلى كل من وزيرى الزراعة والتجارة والصناعة، بحظر تداول حبوب الغلة القاتلة فى الأسواق المصرية.



وقالت سلامة فى طلبها إن حبوب الغلة يتم بيعها فى محال المبيدات الزراعية والصيدليات البيطرية دون ضوابط أو رقابة من الأجهزة المعنية، وأضافت أن المزارعين يستخدمونها فى عمليات حفظ القمح وحمايته من التسوس والحشرات والآفات الضارة، أثناء عمليات التخزين بعد موسم الحصاد، ولكن اتضح أنها وراء انتشار ظاهرة الانتحار فى محافظات الدلتا والصعيد، لاحتوائها على مادة «فوسفيد الألمونيوم» السامة.



وأكدت أن تزايد حالات الوفيات بسببها فى عدد من المحافظات يستوجب على الحكومة سرعة التحرك لاتخاذ قرار عاجل يحظر تداول هذه الحبة، أو وضع ضوابط صارمة لبيعها، بتدوين اسم المشترى ورقمه القومى، ومنع بيعها لصغار السن والشباب، وأن يتم بيعها للكبار فقط.



اضطراب فى الشخصية



ولكن لماذا يلجأ المراهقون والكبار للانتحار بالحبة القاتلة بالتحديد؟، وما هى أسباب ذلك وكيفية التقليل منها؟، تقول الدكتورة هالة البرعى أستاذ الطب النفسي، واستشارى الطب النفسى للأطفال والمراهقين بجامعة المنصورة، ان البعض يتناول الحبة وهو لا يدرى خطرها الكبير، لأنه يكون تحت تأثير حالة نفسية معينة، بينما يعرف البعض الآخر تماما ما يفعله ويتوقع نتائجه، مشيرة إلى أن من يقدم على الانتحار واحد من فئتين؛ الأولى مريض نفسى لديه اكتئاب حاد وميول وأفكار انتحارية، والثانية؛ شخص لديه اضطراب فى الشخصية وخلل فى الوظائف المعرفية والتصرفات وعدم القدرة على التحكم فى الاندفاع .



وتؤكد البرعى وجود تقصير فى الرعاية النفسية لطلاب المدارس، حيث تقتصر وظيفة الإخصائى النفسى على التواصل مع الأهل، مقترحة العودة إلى ترابط الأسرة وتقوية الصلات بين أفرادها وبث القيم الدينية والمعلومات لدى الطفل مبكرا، ومنها تحفيظ القرآن والتحذير من الانتحار وعواقبه وأيضا توطيد العلاقة بين الوالدين، مطالبة بتكثيف الندوات النفسية السليمة فى النوادى والتجمعات الشبابية وتوعية الأطفال والمراهقين الذين يشكلون 60% من التعداد السكانى بالصحة النفسية، وأن تتوجه الأم فورا إلى الطبيب النفسى عند ملاحظتها أى مشكلة لدى أولادها، وألا تنتظر حتى تحصل الكارثة .



وتلفت د. هالة النظر إلى أن غياب حبة الغلة يمكن أن يقلل من حالات الانتحار لكنه لن يمنعها، ويمكن أن تصرف بجداول أو استمارات فى أماكن محددة وأخذ الاحتياطات أثناء صرفها.