عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
مئوية د. حامد عمار.. أبانا الذى فى التربية
30 يوليو 2021
د‏.‏ محسن خضر;


برحيل شيخ التربويين د. حامد عمار «1921 – 2015» يكون الجيل الثالث من الآباء المؤسسين للتربية العربية قد أفل.



وإذا اعتبرنا أن الجيل الأول يمثله الشيخ رفاعه الطهطاوى وعلى مبارك، وهما المؤسسان للجيل التنويرى المصرى، فالأول نشر جيل التعليم الحديث فى مصر « المرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين» والثانى أصدر لائحة رجب المانيفستو الأب لحق أبناء المصريين فى التعليم المجانى، فإن طه حسين وعبدالعزيز جاويش وإسماعيل القبانى ونبوية موسى وانصاف سرى يشكلون الجيل الثانى من أجيال الآباء المؤسسين فى التربية الحديثة فى مصر، فى حين يمثل حامد عمار و د. عبدالله عبدالدايم «سوريا» الجيل الثالث من المؤسسين للتربية العربية الحديثة.



...........................



رحلة حامد عمار من قرية سلوا بأسوان إلى جامعة لندن «1950» وازت رحلة رفاعة الطهطاوى من طهطا إلى باريس، ورحلة طه حسين من المنيا إلى جامعة مونبلييه الفرنسية، وهى رحلة الوعى المفارق لوضعية التخلف إلى عتبة الأنوار، وحيث سيعود كل منهم إلى مصر وقد حمل مشعلاً يضئ به ظلمات الواقع إلى نور اليقظة.



كنت محظوظا أننى زاملت حامد عمار فى نفس القسم «قسم أصول التربية» بعد عودته من إعارته مستشاراً تربوياً بالأمم المتحدة لمنطقة عربى آسيا، حيث عمل فى مكتبها ببغداد وبيروت، قبل أن يحط الرحال فى كليته وجامعته من جديد، وكان من دواعى فخرى أن رأس القسم الذى ضم بين جنباته شيخ التربويين العرب ورائدها فى سنواته الأخيرة.



حضر حامد عمار للاتجاه النقدى فى علمى الاجتماع والتربية، ولم يكن بيداجوچا تقليدياً بل كان أحد رواد علم الاجتماع العرب، حيث مثل اسهامه فى تحليل الثقافة المصرية، ونقد الشخصية الإنسانية أو الطابع القومى للشخصية فى رؤية متكاملة وازت الرؤية الموسوعية لسيد عويس وسليمان حزين وجمال حمدان وعبدالعزيز الدورى «العراق» والسيد حسين وأحمد أبوزيد أصحاب الرؤية الإبداعية فى قراءة الشخصية الثقافية للشعب، وكتابه «فى بناء الإنسان المصرى» «1966» يمثل الحجر الأساسى فى بنية صلبة تطورت لاحقا، ليواصل تنظيره ونقد الثقافة المصرية، ونقد السمات السلبية فى هذه الشخصية، وخاصة أن كتابه اللافت صدر فى مرحلة التحول الاشتراكى فى الحقبة الناصرية لينبه إلى التراكم السلبى فى سمات المصريين التى تعوق بناء المجتمع الاشتراكى، وخلال الثمانينات وتتسع قراءته ليصدر مؤلفه المهم «فى بناء الإنسان العربى» عن منظمة الأكيلو العربية من تونس، ثم تتوالى مؤلفاته الغزيرة التى يزاوج فيها بين النقد الاجتماعى والنقد التربوى كأحد أبرز المفكرين التربويين النقديين العرب، وليخط مساراً نقدياً فى التربية العربية كان الراحل د. محمد نبيل نوفل، أبرز منتسبيه، ولاحقاً يحتضن حامد عمار تياراً نقدياً خصباً برز عن بنية عبدالسميع سيد أحمد، وحسن البيلاوى، وعصام هلال، وكمال نجيب، و شبل بدران.



مثل حامد عمار المثقف بحق فكانت مؤلفاته ومقالاته وندواته وإشرافه على الرسائل الجامعية، ومشاركته فى رسم السياسة التعليمية مستشارا لوزير التعليم، كما نشط فى معهد البحوث والدراسات العربية ورأس قسم التربية به، وهو المعهد التابع لجامعة الدول العربية وفى أنشطة المعهد القومى للتخطيط، وفى مؤتمرات ومشروعات منظمة الأليكسو العربية وعلى الصعيد البيولوجى اعتبر حامد عمار أن الشخصية الفهلوية كانت تمثل المعوق الرئيسى للتعبير فى حقبة ثورة يوليو، ثم أضاف إليها «شخصية الهباش» فى حقبة الانفتاح الاقتصادى، ثم أضاف إليها شخصية «البلطجى والمجرم» فى الحقبة المباركية للتعبير عن التدهور الذى ترتب على تآكل المنظومة القيمية، وحالة التجريف التى أصابت السمات الإيجابية للشخصية المصرية، وعدد عمار سلبيات التفكير فى العقل المصرى التى تحول دون اشتغال العقل المصرى على أسس علمية مثل التفكير من خلال الأسطورة، والتفكير من خلال الخوارق والتفكير من خلال الكاريزما، والتفكير من خلال الزمن وغيرها.



احتضن عمار مشروعاً فكرياً من خلال إشرافه على سلسلة «آفاق تربوية» عن الدار المصرية اللبنانية، والدار العربية للكتاب عبر عقد ونصف نشرت العديد من المؤلفات النقدية فى الفكر التربوى وكان حريصاً على كتابة مقدمة لكل كتاب كانت نصاً موازيا ًللكتاب الأصلى.



دافع عمارة بصلابة عن مجانية التعليم، والعدالة التربوية، وبين حقوق المصريين فى تعليم راق ومجانى، وعن دور الدولة المركزى فى التعليم، كما كان مدافعاً صلداً عن الحرية الأكاديمية وقيم الاستنارة العقلانية، ولِمَ لا وقد كانت أطرحته فى الماجستير بجامعة لندن عام 1950 عن انعدام تكافؤ الفرص فى التعليم المصرى، وهو ما عرضه للمساءلة من قِبل فؤاد سراج الدين وقتها.



أما أطروحته فى الدكتوراة فكانت عن التنشئة الاجتماعية فى قرية سلوا «أسوان» ومن الغريب أن كريمته ليلى كررت هذه الدراسة بعد نصف قرن على نفس القرية.



أفخر أننى شاركت الرجل الإشراف على عدة أطروحات فى مرحلة الماجستير والدكتوراه، وكان أبرزها عن رؤية العالم لدى طفل المرحلة الإعدادية، للباحثة سوسن الشريف، وتربية القلب فى الفكر الإسلامى، للباحث سيد النحراوى، وعن المكانة الاجتماعية للمعلم المصرى، واجهوا اصلاح التعليم المصرى فى السياسة التعليمية، والاثنتان الأخيرتان للباحثة سامية فرغلى، كما تبادلنا مناقشة الأطروحات التى يشرف عليها أحدنا.



ومن دواعى اعتزازى أن المرة اليتيمة التى أهدى د. عمار إهداء فى كتاب له كانت لى مناصفة مع المؤرخ الكبير الراحل د. رءوف عباس فى كتابه «عولمة الإصلاح التربوى» وكان يفكرنا دوماً بمقولة المفكر البرازيلى الشهير باولو فريرى «ليس هنا تعلم محايد» أما أن يكون أداة للقهر أو أداة للتحرر، كما تبدى مقولة السوسيولوجى بيير بورديو «التعليم مسألة سياسة، كما أن السياسة مسألة تعليمية».



اقتربت كثيراً من الرجل، وكان يصفنى بـ «الحفيد المريد»، وتوليت مراجعة سيرتين، والغريب أنه أصدر سيرتين فصل بينهما أقل من عشر سنوات «خطى اجتزناها بين الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة» و»منع سيرته الذاتية متابعة وتآملا وتقييما» وأتاح لى استخدام قلمى فى ملء بعض الفجوات، حول الأشخاص والتواريخ التى لم تم تسعفه الذاكرة بتحديدها.



ناهض عمار الاتجاه الكمى فى البحوث التربوية، وهاجم مبكراً الاتجاه الوظيفى والسلوكى فى التربية، معتبراً أن وظيفة التربية هى التحرير لا التثبيت والتجميد والتوازن. قيض للرجل أن يحصل على أرفع الجوائز العربية: جائزتى النيل التقديرية والعلوم الاجتماعية، وجائزة جامعة الدول العربية فى التربية فى طبعتها الأولى مناصفة مع د. محمد جواد رضا «العراق» وجائزة الكويت للتقدم العلمى.



ناهض حامد عمار خصخصة التعليم، والتوسع فى التعليم الخاص والأجنبى، وتعدد أنواع التعليم، والتبعية الثقافية فى التعليم.



أذكر الحضور الأخير للرجل فى سيمنار قسم أصول التربية، وكان الرجل يتميز بنهج الراديكالى الرافض لشكلانية الخطط القوالب الجاهزة التقليدية والمقررة، وكان يفضل أن يضعنا الباحث فى مهمة أو قضية مباشرة دون الاهتمام بقوله الخطة تحت محاور مكررة، كما كان يرفض استعمال كلمة أجنبية فى الرسالة، وهو الذى يجيد الإنجليزية بطلاقة، كما كان مجدداً فى اللغة التربوية، وصاحب أسلوب بيانى وتعبيرات بلاغية مستجدة، ومن المستحيل أن يخطئ فى كتابة كلمة واحدة.



فى حضوره الأخير، وفى بداية مرض الموت، ألقى خطبة الوداع داعياً فيها أعضاء القسم إلى الترابط والالتفاف كرجل واحد، وإلى الارتقاء بالرسالة الأكاديمية، والحرص على الحرية الأكاديمية، والتمرد على النمطية والقولبة والاستنهال.



مزج حامد عمار بين الأبعاد الوطنية والقومية والإنسانية فقد كان مصرياً حتى النخاع، وعروبياً صلداً، متفتحاً على الانسان وفى كل مكان، باعتبار وحدة الجنس البشرى، وفى جنازته حضرت مصر كلها من أول رئيس الوزراء، ووزراء التعليم والثقافة الحالية والسابقة، وممثلى الأمم المتحدة والجامعة العربية إلى جانب مريديه وطلابه.



باسم المثقف النقدى كان اشتباكه الدائم مع قضايا مجتمعه، وكان شيخنا حريصاً على اصطحاب مؤلفات المفكر التربوى البرازيلى الشهير «باولو فريرى» الأخيرة، ودفع بها إلى تلاميذه لترجمتها، كما قام بترجمة أحدها باولو فريرى أهم مفكر تربوى نقدى فى نصف القرن الأخير، وكان نهجه فى تعليم الكبار نهجاً تحريرياً يحرر به المتعلم والمعلم معاً، وطبقت طريقته فى محو الأمية شرقاً وغرباً، كما كان يكتب دوماً فى قضايا العروبة، ولعل كتابه «من القدس يبدأ السلام» عنوان لإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية، وكان محرضاً دوماً على التفكير خارج الصندوق، والتفكير فى اللا مفكر فيه ومساءلة المرحمات الثقافية، وضرب جواد الفكر الكسول بسوط ليفيق من غفوته كما كان يقول «سقراط».