وجدت نفسي مدفوعاً إلى وقف الحديث الذي أسوقه حول الطبقة الوسطى، وبناء المقال الحالي حول العقل وعلاقته بالإيمان. ولم يدفعني إلى ذلك فقط ما أشاهده في الوعظ الديني من عدم التعمق في التحليل العقلي للنصوص والفهم العقلي للإيمان الذي قد يدفع الإنسان إلى مزيد من إعمال العقل فيما حوله من ظواهر الطبيعة والعمران؛ وإنما دفعني إليه أيضاً ذلك الحديث الذي جمعني في مساء يوم عيد الأضحى مع ثلاثة من شباب يدرسون صنوفاً مختلفة من المعرفة (الدينية الأزهرية- والقانونية – والتجارية)، وهم من الجيل الجديد الذي يعرف بخصال نستطيع أن نقرأ عنها في مظان أخرى، ومن أهمها تحصيل المعارف السريعة، والتقلب بين صنوف الحاجات والمطالب والطموحات (يمكن للقارئ المتابع أن يراجع العدد 78 بتاريخ أكتوبر ٢٠٢٠ من مجلة الديمقراطية).
لقد أكد لي الحوار الذي دار مع هؤلاء الشباب أننا بحاجة إلى فهم هذا الجيل على نحو أكبر، بقدر ما نحتاج أيضاً إلى فهم الطريقة التي تشكل طبيعة عقائدهم وأشكال تدينهم، ولن أبدأ بإصدار أحكام، ولكن سوف أسرد الطريقة التي بدأ بها الحوار وطبيعة الحديث الذي ُسْقته إليهم، لعلي أكون قادراً على استخلاص نتيجة تفيدني في فهم مستوى التكوين الفكري والعقدي للشباب.
لقد بدأ الحديث دينياً بحكم المناسبة أو ربما بمحاولة مني لكي أشرح بعض الأشياء التي قد تكون ملغزة بالنسبة لهم، وربما لاستشعاري برغبتهم في الاستماع. ولقد تعمدت أن انهي حديثي بالإشارة إلى مفهوم العلمانية الذي غالباً ما يفهم خطأ لدى كثير من الناس؛ على أساس أنه مفهوم ينفي الدين أو يلغيه من الحياة. وهنا كانت المفاجأة إذ سألني الشاب الأزهري بسرعة وعند سماعه كلمة العلمانية عن الفرق بين العقل والشريعة، وفهمت من طريقة طرح السؤال ومضمونه أهمية أن أسوق إليهم حديثاً حول هذه العلاقة وحول أهمية العقل في الإيمان، والذي يبدو وكأنه يستقيل تماماً فهو يوجد هناك وليس هنا، وهو يشكل إطاراً للخوف والقلق إزاء ما يحفظ ويتواتر من نصوص وأقوال لكبار العلماء.
بدأت حديثي بسؤال رأيته مهما في هذا السياق، وبعد أن سألت الشاب عن مدى معرفته بكتاب ابن رشد فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال وهو كيف استقبل الأنبياء الوحي، هل استقبلوه بأجسادهم أم بعقولهم؟ لقد نزل الوحي على قلوب الأنبياء وعقولهم وأفئدتهم، ولم يكن لهم ان يستوعبوا مشاقة استقبال الوحي وغموضه إلا بإعمال العقل؛ بل إن الأمر الأول لمحمد صلي الله عليه وسلم كان «اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»، أي أن يعرف وأن يفكر، وأن المهمة الأساسية للرسول هي أن يعرف الله عن طريق الوحي، وأن ينقل هذه المعرفة معلماً للناس ومرشداً لهم، على نفس المنوال الذي علم به آدم الأسماء للملائكة. ولاشك أن الفهم العميق لهذه المهمة، والإيمان العميق بها هي التي منحت الأنبياء كل هذا الصمود والصبر في وجه غير المؤمنين بعقيدتهم؛ وهي التي منحتهم هذه القوة على نشر العقيدة التي تلقوها عبر الوحي على أكبر قدر من الناس. والمتأمل لحياة النبي صلي الله عليه وسلم يكتشف أن كل خططه لنشر الرسالة إنما كانت من العقل الذي منحه الله له، والقدرة على استخدام هذا العقل في تدبر الأمور واتخاذ القرارات التي تجعل الرسالة أكثر انتشاراً واستقراراً، ولقد كانت منها قرارات صعبة (قد يكون صلح الحديبية نموذجاً).
ولاشك أن عمق الإيمان هو الذي أسهم في اقتناع الناس بالرسالة، ولكن وراء هذا العمق الإيماني تكمن قدرة عقلية على تمحيص الحق من الباطل والخير من الشر، وعلى فهم فيض القيم التي يحملها الدين الجديد. حقيقة أننا نعرف بشراً آمنوا بالدين الجديد إيماناً قائماً على التصديق المطلق النابع من الثقة في النبوة (مثل السيدة خديجة وأبو بكر وعلي)، ولكننا نعرف أيضاً بشراً بنوا إيمانهم على التدبر العقلي وعلى النظر والمقارنة بين الماضي الجاهلي الذي لم يعرف العدل قط وبين العهد الجديد الذي يبشر به الدين الذي يقدم للناس وعداً حقاً بالعدل والتحرر من أسر الجاهلية، ويدعوهم إلى التفكر في شئون الكون من حولهم، ويؤكد لهم أن الآيات التي تتلى عليهم والحكمة التي تسرد أمامهم هي لمن يعقل ويتدبر. فأينما تذكر سنن الكون في القرآن، فإنه يذكرنا دائماً بأن نفكر ونتدبر، لأن هذه الآيات قد سيقت لقوم يعلقون.
وهنا يأتي السؤال المهم إذا كان العقل حاضراً في كل مراحل استقبال الوحي، ونشره بين المؤمنين، وعملية الإصغاء له وفهمه وتدبره، إذا كان الأمر كذلك، فهل يصح لنا أن نجعل العقل مفارقاً لنا؟ إن كل هذه العمليات تؤكد لنا أن العقل له حضور ومحايثة، وأننا نحن الذين نخلق له هذا التباعد والهجران، لأنه إذا دخل علينا سوف يبعدنا عن الحفظ والاستظهار الذي نحبه ونبي عليه قناعتنا. وإزاء ذلك كله فإن علينا أن نفهم عملية التفكير والاستحضار الدائم للعقل على أنها جزء من الإيمان الحق، وأن تحقيق أهداف الوحي في إعمار الأرض وبعث الازدهار فيها لا يتم إلا بحضوره الدائم. فإذا ما استحضر المؤمن العقل واعتبره جزءاً من إيمانه وعقيدته، فإنه سوف يرقى بوجوده الإنساني، لأنه لن يكون بحال مؤمناً يتلقى نصوصاً فيستظهرها دون فهم، ولن يكون مؤمناً تابعاً لأفراد فهموا النصوص على نحو معين وخلقوا بها وصاية وحجراً على فكر التابعين، ولن يكون بحال إنساناً خاملاً لا يسخر عقله في خدمة وطنه وفي تحقيق الغاية العظمى من الوحي في بناء العمران البشري وازدهاره.
وأخيراً وإذا ما عدنا إلى الحوار الذي أثار هذا الحديث فإننا نكون بحاجة ليس فقط إلى استعادة العقل ودوره المهم في الفهم وتعميق المعاني في التكوين المعرفي للشباب، بل نكون بحاجة أيضاً إلى أن نعاود النظر في الطريقة التي نبني بها تديننا وفهمنا للهدف السامي للدين.