عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أعلن فخره بجائزة النيل المصرية.. المفكر اللبنانى رضوان السيد لـ«الأهرام»: مستقبل الإسلام فى «لاهوت الرحمة».. أثق فى قدرة مصر على تجاوز كل محاولات التكالب لإعاقة نهضتها
13 يوليو 2021
حوار محمد حربى
الدكتور رضوان السيد



  • لغتى أزهرية ومنهجى ألمانى.. وهمى الفكرى العلاقة بين الدين والدولة


  • ‪‬ دعم الدولة الوطنية وتقويتها هو الحل للخروج من مأزقنا السياسى


  • دخول الدين فى بطن الدولة يضر الدين والدولة معا


  • لهذه الأسباب عارضت مقولات إدوارد سعيد فى الاستشراق


  • علماء الإسلام لم يجدوا مجالا للازدهار إلا فى «مصر الحرية»



 



 



تعلم فى الأزهر ودرس فى ألمانيا فصار مفكرا رصين اللغة كالأزهريين القدامي، وحداثى المنهج كالكتاب المعاصرين.. وصارت كتاباته جسرا بين ضفتين، وطريقا واصلا بين منطقتين مختلفتين. وقد واصل على مدى خمسين عاما طرح أفكاره التى تثير كثيرا من الجدل، وكثيرا من الاختلاف حول الدين والدولة وحول خطورة الإسلام السياسى والانقسامات فى العالم الإسلامي.



ويفخر المفكر اللبنانى الكبير رضوان السيد، بسنوات تكوينه المصرية فى جامعة الأزهر، مثلما يفخر بسنوات التكوين الثانية فى ألمانيا، ويعلن فخره بفوزه بجائزة النيل «لأنها من مصر التى كانت وستظل قلب العروبة».



المفكر اللبنانى يعارض مقولات الراحل الكبير إدوارد سعيد فى الاستشراق، مؤكدا أنه لا أحد قد تآمر على المسلمين، وأن الإسلاموفوبيا المنتشرة لنا فيها نصيب من المسئولية، مشيرا هنا إلى خطورة تصورات الإسلام السياسى حول العقيدة والدولة. ويرى بوضوح أن مستقبل الدين الإسلامى أو الفكر الإسلامى فى «لاهوت الرحمة» الذى قدمه الأزهر فى «ميثاق الإنسانية» فى أبوظبي، وكما قدمه الدكتور رضوان نفسه فى سرديته الجديدة لفهم الدين، منطلقا من علاقة الإنسان بالإله وقوامها الرحمة، ومن علاقة الإنسان بالآخرين وقوامها التعارف.



ويرفض السيد مقولات اليسار الفكرى العربى الذى يتهم الأشعرية بايجاد الطغيان السياسى العربي، معتبرا أن الأشعرية لا تؤمن بتكفير الآخرين لأن لاهوتها هو لاهوت الرحمة.



فى هذا الحوار يؤكد السيد بيقين أن تطور الدولة الوطنية هو الأساس لتحقيق النهضة سياسيا وفكريا وأن تطور مصر ضرورة حتمية، ويعلن ثقته المطلقة فى حل مصر لأزمة سد النهضة «لأن مصر دولة الحضارة» التى تصون ولا تبدد وتحمى ولا تهدد كما قال عبد الناصر يوما.



وإلى نص الحوار



 



ماذا تعنى الجائزة المصرية لمفكر لبناني؟



عنت الجائزة بالنسبة لى الكثير، أولاً لأنها مصرية، وثانياً لأنها جائزة علمية رفيعة، بل أرفع الجوائز المصرية. لقد ذهبتُ لمصر للدراسة عام 1966 وسنى سبعة عشر عاما. وقضيت بها دارسا خمس سنوات فكانت تلك السنوات الخمس هى سنوات التكوين، التى ينبع منها وعنها كل شيء فى عقل المرء وحياته. وبعدها ــ كما يظهر فى سيرتى العلمية- ذهبت إلى ألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة، دارساً أو أستاذاً، لكنّ مصر بقيت فى أعماقى سواءً لجهة النزوع الدينى أو العلمى أو الأخلاقي.



ولذلك فعندما يمنحنى علماء مصر جائزةً بهذا السموق؛ فإننى أكون شديد الاعتزاز لأنها من مصر، ولأنها من علمائها، ولأنّ ذلك يعنى الاعتراف العلمى والأخلاقي، وتبادُل الودّ والوفاء.



البعض يقول إن الجوائز العربية يقف وراءها قصد سياسى وإن مصر قصدت إعطاء الجائزة لمفكر سنى أزهرى وكأنها تكافيء نفسها؟



تسألنى عن أصول الجائزة وخلفياتها وإمكان وجود علاقة للسياسة بها. وأقول لك: لمصر خطاب ثقافى وعلمى وأخلاقى قديم وحديث ومعاصر. وأول معالمه أنه وطنى وعربى وإسلامى وعالمي. لا تلتقى الهويات المختلفة والمتعددة فى أى مكانٍ كما تلتقى بمصر، وأيضاً منذ القديم وإلى الحديث والمعاصر. مصر بيئة الاستقبال والاحتضان. منذ القديم عندما ظهرت فيها الدول الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية والمملوكية. كل من هذه الدول نُظر إليها ليس بمنظار أصل النسب، بل بمقدار أداء الوظائف والأدوار، وحماية المصالح.



وما يقال عن الدول يقال عن الثقافة. فمنذ القرن السادس الهجرى إلى القرن العاشر الهجري، ظلت مصر هى بيئة العلم الأولى فى عالم الإسلام. وأستطيع القول إنّ نصف العلماء الذين اشتهروا فى مصر، وقُدّر علمهم؛ إنما وُلدوا فى بلدان عربية وإسلامية، لكنهم ما وجدوا فرصاً للازدهار بحرية إلاّ فى مصر المصرية والعربية والإسلامية والعالمية.



وقبل قرابة القرنين، بزغ بمصر النصاب الجديد للدولة الحديثة، والنصاب الجديد للثقافة الحديثة. وهو نصابٌ تنامى وكان مثقفو لبنان (قبل قيام دولته) وسوريا (بلاد الشام) بين أوائل من استجابوا له من غير الأجانب. ومنهم المترجمون والصحفيون وصُنّاع المسرح والمجلات ودوائر المعارف. وقد صار ذلك كله تاريخاً معروفاً. أما الأزهر فعاد يستقطب الشوام منذ القرن الثامن عشر. ونحن فى المعهد الدينى ببيروت كان أساتذتنا مصريين، وكان المتقدمون منا يحصلون على مِنَح بعد الثانوية للدراسة بإحدى كليات الأزهر الثلاث. وفى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، قدِم آلاف اللبنانيين للدراسة بالجامعات المصرية.



وعندما درستُ بالأزهر (1966ــ1971) كان عدد الطلاب اللبنانيين بالجامعات لا يقل عن خمسة آلاف. صحيحٌ أنّ النصاب السياسيَّ مهمٌّ لانفتاح البلاد ونهوضها، وهو الذى أتاح الاستقبال والترحاب. لكنّ النصاب العلمى والثقافى هو الذى دفع ويدفع للمجيء إلى مصر. وهو نصابٌ ــ كما سبق القول ــ مستمرٌ ومتنام.



وفى حالتى لهذا العام ــ أقصد الجائزة ــ فإنّ الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، اقترحني، ومجلس جامعة القاهرة رشحني، ووجد الترشيح ترحاباً فى المجلس الأعلى للثقافة. وهكذا حصل التأهل المشترك. إنما لو بحثنا فى الأصل الأصيل، لوجدنا أنّ الدولة التى اشترعت لجائزة النيل فرعاً عربياً، هى جمهورية مصر العربية.



وماذا يعنى لك اسم النيل على الجائزة والنيل فى خطر هذا العام؟



تسألنى عن موضوعٍ منفصل بعض الشيء، لكنه معنيٌّ بمصر. اسم الجائزة جائزة النيل. والمؤرخ العبقرى اليونانى هيرودوت قال: مصر هبة النيل. فهذا الشريط الواسع والطويل من الماء العذب الزلال قامت على جانبيه ومتفرعاته حضارة العمران والتاريخ والدولة المصرية العريقة.



ولننظر إلى هذه التحديات التى يريدون إحاطة مصر بها ومرةً واحدة. والذى أراه أنّ هذا التكالُب لإعاقة نهوض مصر، ستتجاوزه الدولة المصرية الجديدة والناهضة. إنّ أصعب أشكال النهوض هو النهوض النوعى التنموي، وهى الثورة الجديدة التى انطلقت فى مصر ولن تتوقف. وقد قال الرئيس جمال عبد الناصر (عام 1959) عن مصر إنها الدولة التى تحمى ولا تهدد، وتصون ولا تبدد، وتشد أزر الصديق وتردّ كيد العدو.



قلت إنك درست بالأزهر وتشكلت فكريا فى رحابه. هل لك أن تحدثنا عن تلك التجربة الأزهرية؟



أتيتُ للأزهر عام 1966 بمنحة من مصر ككل الطلاب اللبنانيين. ودخل زملائى إلى كلية الشريعة وكلية اللغة العربية. أما أنا فدخلت بمفردى إلى كلية أصول الدين. كنتُ -من قراءاتى فى الثانوية -مغرماً بعلم الكلام والفلسفة. وكان الأزهر منفتحاً وفى حالة نهوض، فى كلياته الثلاث وفى كلية التجارة التى كانت تقع مقابل كلية أصول الدين بالدرّاسة. وكنا نتشارك المعلومات عن المحاضرات والأساتذة ونحضر فى كل الكليات المتجاورة حسب شهرة الأستاذ.



أنا تأثرت كثيراً بالشيخ محمد أبو زهرة الذى درّسنا أصول الفقه بعد تقاعده من الجامعة المصرية. وأحببت محاضرات الشيخ سليمان دنيا الذى كان مهتماً بابن سينا والغزالي. وكانت لمحاضرات الشيخ عبد الحليم محمود الذى صار عميداً للكلية شعبية بيننا. وفى السنة الثانية جاء لتدريسنا الدكتور محمود حمدى زقزوق الذى كان قد عاد من ألمانيا حديثاً، فأغرمت بالثقافة الجديدة التى كان يطرحها علينا، وأُغرمت ببذلته الأنيقة. وظلّ صديقاً لى لأربعين عاماً حتى وفاته رحمه الله.



وفى درس محمود زقزوق، تعرفت على الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالى وصرنا أصدقاء منذ العام 1968. الشيخ الطيب تأثر بالشيخ عبد الحليم محمود وأراد أن تكون بعثته إلى باريس. وأنا تأثرت بزقزوق وبدوى والبهى وسعيتُ بعد عودتى إلى لبنان من أجل منحة إلى ألمانيا.



عندما قدمت للأزهر من كانوا قدوة لك؟



بالطبع عندما أتيتُ إلى الأزهر كان نموذجى للتجديد الدينى الشيخ محمد عبده. وقد أحببتُ كتب العقاد وعثمان أمين وآخرين عنه. وكان ذلك بادياً عليّ منذ كتاباتى الأولى أواخر الستينيات قبل سفرى إلى ألمانيا.



لكنّ مصر كانت وقتها شديدة الازدهار بالتيارات الفكرية والأدبية والاجتماعية. أما المجلاّت فى شتى المجالات فقد كانت متعددة. ولذلك كانت قراءاتنا متنوعةً جداً، كما كنا نحضر بجامعة القاهرة وعين شمس وأحياناً بالجامعة الأمريكية إذا تيسر ذلك. وعندما حاضر بالأزهر كلٌّ من محمود قاسم (دارالعلوم) وعلى سامى النشار (جامعة الإسكندرية) صرنا نمضى إلى دار العلوم، وإلى جامعة الإسكندرية للاستماع.



كانت سنوات شديدة الغنى فى بناء الشخصية العلمية والإنسانية. وذهبنا للإدارة الثقافية بالجامعة العربية وتعرفنا على طه حسين فى منزله أيضاً، وسُرَّ بنا لأننا شوام وأزهريون. وعرّفنا الدكتور زقزوق على أستاذه محمد البهي، فكنا نزوره فى منزله. واشتريت كل كتب عبد الرحمن بدوى فازداد شوقى للذهاب إلى ألمانيا.



وعندما ذهبت إلى ألمانيا وجدتُنى أعرف أساسيات فى الفلسفة الحديثة وفى العلوم الاجتماعية والمذاهب الجديدة فى كتابة التاريخ، وإبستمولوجيات الفرنسيين الذين لم أُعجب وأُتابع من عندهم إلاّ مدرسة الحوليات. كل ذلك عرفته مجملاً ومفصلاً من سنوات العمر الزاهرة بمصر من خلال المجلات الفكرية أو الكتب المترجمة. حتى الروايات العالمية عرفت العشرات منها مترجمة وبخاصة الألمانية والروسية والبريطانية والأمريكية: مصر بالفعل أُمُّ الدنيا!.



وأين الأزهر الآن من ذلك التاريخ وذلك الانفتاح؟



الأزهر معقل الإسلام والعربية، ومركزه وفروعه بمصر والخارج تحتوى على نصف مليون من الطلاب والأساتذة. ولديه مرافق ومؤسسات هائلة الحجم والعدد، وعشرات الألوف ممن يتقنون عدة لغاتٍ حية ومعاصرة. وأنا أذكر الحجم الكمي، لكنّ الضخامة أيضاً تصبح نوعية. لقد أُصبنا جميعاً نحن ذوى الثقافة الدينية (التى تحبون تسميتها تقليدية) بهزةٍ أو هزاتٍ كبرى نتيجة صعود الإرهابيات والصحويات.



وبذل الأزهر جهوداً كبرى فى مؤتمراتٍ وندواتٍ لمكافحة التطرف ومراجعة المفاهيم. وقد ذكرت ذلك فى كتابي: (أزمنة التغيير، الدين والدولة والإسلام السياسى 2014). لكنّ الصحويات والإخوانيات أخطر حتى من الإرهاب. أما حالة الأزهر الآن فتستحق الاعتبار لجهتين: تأكيد التجديد الدينى الكبير فى مؤتمرى أسيوط (2015)، والقاهرة(2019).



الجهة الثانية: الشراكات العالمية التى أقامها (قارن وثيقة الأخوة الإنسانية، 2019 بأبوظبى بين البابا وشيخ الأزهر) إنّ التحدى الصحوى مستمر بأُطروحتيه الخطيرتين: تطبيق الشريعة، والاعتداء على الدولة الوطنية باسم الدين. لا سكينة فى الدين ما دام هناك أُناس يحسبون الشريعة غير مطبقة. كما أنّ الاستمرار فى إدخال الدين فى بطن الدولة مضرٌّ بالدين أكثر من إضراره بالدولة.



الأزهر أشعرى المذهب، فما هو دفاعكم عن الأشعرية المتهمة لدى المفكرين التقدميين بأنها أساس الديكتاتورية العربية؟



كانت الأشعرية هى العنوان الكلامى الأبرز لمذهب أهل السنة والجماعة طوال عشرة قرون لكنها نشأت أو تطورت فى مواجهة المعتزلة. وقد تغيرت البلاد ومن عليها، وصار ذلك كله تاريخاً من التاريخ الدينى والثقافي.



وطوال القرن العشرين كانت هناك حملات صاعقة على الأشعرية وعلى المذاهب الفقهية الثلاثة باعتبارها جميعاً جزءًا من التقليد السنى الجامد. وما اقتصر الأمر على المستشرقين، بل هجم عليها السلفيون والإصلاحيون والعلمانيون. وعندما جئنا للأزهر كان المقرر فى علم الكلام لا يزال كتاب المواقف للعضد الإيجى والعقائد النسفية وحواشيهما. إنما ما كان هناك عالم معتبر يصرح بأشعريته. ونحن سررنا بعلى سامى النشار لأنه كان يصرّح بذلك.



وفى العقود الأخيرة هناك نهضةٌ فى الغرب فى دراسات الأشعرية، وصار هناك علماء كبار يصرّحون بأشعريتهم وعلى رأسهم شيخ الأزهر الحالي. بعد الفترة الأولى التى اقترنت فيها السلفية بالإصلاح، ظهرت السلفيات المتشددة والقديمة المنحى والتى ما لبثت أن تحالفت مع الصحويات، فانطلق الجيل الجديد من الأزهريين وغيرهم والذى يعتصم بالأشعرية باعتبار أنه لا تشدد فيها ولا تكفير ولا جهاديات.



فى كل دينٍ إبراهيمى لاهوتان: لاهوت التنزيه والعدل، ولاهوت الرحمة والفضل، ولاهوت الرحمة عند أهل السنة هو اللاهوت الأشعري. وكما سبق القول هذا كله تاريخ وينبغى دراسته وفهمه وتجاوزه بما فى ذلك المذاهب الفقهية. التفكير بالدين أيضا تاريخى لأن الدين خطاب إلهى فهو مفتوح على التاريخ، وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: الإسلام واسعٌ عريض.



الأشعرى مسلم والسلفى مسلم، وقد سقطت اهتمامات، وظهرت اهتمامات. ونحن نتنافس بشأن الأبعاد المتجددة لما سماه شبلى النعماني: علم الكلام الجديد، وما اجترحه الإمام محمد عبده من جديدٍ فى رسالة التوحيد: هل تملك الأشعرية العقدية إمكانيات مستقبلية، وكذلك السلفية العقدية هل تملك إمكانيات مستقبلية؟ وبدون تسمياتٍ وألقاب: لاهوت الرحمة، هو مستقبل هذا الدين!



ألمانيا



حلمت بالسفر لألمانيا كيف جاءتك الفرصة لتحقيق حلمك ولماذا اخترت جامعة توبنجن للدراسة؟



ذهبت إلى ألمانيا بمنحة كريمة مدتها خمس سنوات. وأنا اخترت توبنجن بسبب وجود الأستاذ «جوزف فان أس» فيها وهو كبير العلماء بألمانيا فى الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام. إنما ليس هذا فقط فجامعة توبنجن مشهورة بالدراسات الفلسفية والتاريخ وعلوم اللاهوت المقارن وفلسفة الدين. ولأنّ المنحة طويلة المدة فلم أبدأ قبل أواخر العام 1974 بالتفكير فى دكتوراه الفلسفة فى الدراسات الإسلامية.



لقد أقبلت على إتقان الألمانية وحضور السمينارات فى سائر التخصصات السالفة الذكر. وخلال ثلاث سنوات اجتمع لديَّ حوالى الألفى كتاب أقلّها فى الاستشراق أو الدراسات الإسلامية. واليوم وقد تجاوزتُ السبعين، أستغرب عندما أجد فى مكتبتى حوالى الخمسة آلاف كتاب بالألمانية والإنجليزية والفرنسية! لقد جُننت بالقراءة كما سبق أن جُننْتُ بها فى مصر.



وماذا عن الفروق العلمية فى الدراسة بين الأزهر التقليدى وتوبنجن الحداثية؟



طبعاً هناك فروقٌ من عدة نواحٍ بين الدراسة فى الأزهر ومصر، والدراسة بألمانيا. ركزت فى سنواتى الأولى بألمانيا على التعرف على المناهج الجديدة فى التاريخ والفلسفة وفلسفة الدين والعلوم الاجتماعية. والأساتذة بالأزهر كانوا يهتمون بنا أفراداً إذا لاحظوا تميزاً، أما الأستاذ بألمانيا فلديه سلطات ملكية، لكنه مهمومٌ بأبحاثه أكثر من اهتمامه بطلابه. لكنّ أولئك الأساتذة كانوا يقرأون الأوراق التى نكتبها بعناية أكبر من أساتذتنا بالأزهر. وبسبب هذا التدريب الدقيق، تطور لديّ بألمانيا أسلوب جديد فى الكتابة يعتمد التحليل الشاسع، فالتركيب المحكم.



وإلى اليوم فإنّ لغتى الكتابية أزهرية مصرية، أما النهج الفكرى فهو ألماني. إنما عندنا تحدياتٌ ليست عندهم. فأنا مهموم منذ السبعينيات بالعلائق بين الدين والدولة فى التجربة التاريخية العربية الإسلامية. بيد أننى ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، رحتُ أهتمّ بالحركات الإسلامية وبالصحويات والأصوليات وآثارها السلبية فى الفكر والدين والمجتمع. وعلى أى حال التجربة الألمانية تحتاج وحدها إلى كتاب، وهى ظاهرةٌ فى سائر أعمالى الأكاديمية، لكننى لم أخصّها إلاّ بكتابٍ واحد هو: (المستشرقون الألمان، النشوء والتأثير والمصائر»2007، 2012») ويصدر لى هذه الأيام فى المركز القومى للترجمة كتابٌ ضخمٌ عنوانه: (الاستشراق الألمانى فى زمن الإمبراطورية) ترجمتهُ عن الإنجليزية لسوزان مارشاند.



الاستشراق والإسلاموفوبيا



كتبت كتابا عن الاستشراق الألمانى وخضت حربا نقدية مع كتاب إدوارد سعيد الشهير عن الاستشراق ودوره الاستعمارى. ما هى مآخذك على استشراق سعيد؟



صدر كتاب إدوارد سعيد عام 1977، وكنتُ وقتها أعرف الاستشراقيين الألمانى والبريطانى جيداً- (وهما تاريخيان) وأتعرف على الاستشراق الفرنسى المهموم بالابستمولوجيا. وما تعرض إدوارد سعيد فى كتابه المهمّ للاستشراق الألماني، ودخل فى نقد الخطاب الكولونيالى باعتبار الاستشراق ممثلاً له.



وأنا ناقشته فى أربع مسائل: أنّ الاستشراق كتخصص علمى رغم مقولات فوكو فى المعرفة والسلطة، لا يمثل بالفعل الجانب الأهمّ من الرؤى الغربية عن حضارات العالم وثقافاته ومنها الإسلام – كتب فيما بعد: الثقافة والإمبريالية وهو أكثر دقة.



والأمر الثانى أنّ الاستشراق الألمانى مختلف كثيراً عن الاستشراقات الأخرى التى ظهرت فى الدول الاستعمارية الكبري. وقد ردَّ على ذلك ردوداً غير مقنعة، فمرةً قال إنّ الاستشراق الألمانى غير مهم، ومرةً كتب أنّ المستشرقين الألمان لا يختلفون عن غيرهم إلاّ فى درجة التورط.



والمسألة الثالثة إنّ مشكلتك يا سعيد أنك تأخذ على الاستشراق اهتمامه بالتقليد، كأنما هم يريدون تجميد الإسلام فى القالب القديم كما يتصورونه، والواقع أن فى كل ثقافةٍ كبرى تقليد وفى مجال الدراسات الإسلامية درس المستشرقون ذلك، لأن هذا هو البحث الموضوعى فى فهم حضارة أو ثقافة معينة، وإلاّ فإنّ معظمهم لا يحبُّ الإسلام القديم، ولا يريد بقاءه!.



والمسألة الرابعة أن سعيدا قرأ الخطاب الاستعمارى من وجهة نظر قيم التنوير الليبرالية التى خانها المفكرون الاستعماريون بيد أن الذين ذكرهم كشواهد هم فى أكثريتهم إما غير مستشرقين وإما غير ليبراليين! وعلى أى حال، ما أحلى سعيد مقارنةً بالشعبذات بشأن القطيعة، وأنّ المستشرقين أجرموا لأنهم كانوا ليبراليين، والليبرالية هى المصيبة الكبرى على العالم كما يقول الطهوريون الجدد!.



ولكن الاستشراق فى كثير من أطروحاته أسهم فى التخويف من الإسلام، فبدأنا نرى «الإسلاموفوبيا»؟



ما تآمر يا أخى أحدٌ على الإسلام من المفكرين المهمين، لكنْ ظهرت مدرسة متأثرة بألتوسير وفوكو وآخرين تقول بالقطيعة مع الموروث، ومعظم هؤلاء عرب وهنود. أما الإسلاموفوبيا، فكانت موجودة على قلة فى الدراسات الأكاديمية، أما صيرورتها تيارات شعبية واسعة فبسبب الهجرة الكثيفة، وبسبب العنف والإرهاب.



قد حاولتُ إظهار ذلك فى كتابى «الصراع على الإسلام» (2004). لقد مرت علينا ثلاثة عقودٍ وأكثر فقدنا فيها الملايين، وتخرّبت بلدان ودول وحضارات، وقد تغيرت أوروبا لغير صالحنا، أما الآخرون مثل الأمريكان والروس والصينيين والهنود، فإن كراهية الإسلام عندهم لعبة إستراتيجية لا أعرف كم يطول أمدها!.



أنت تذكرنى فى أحد أسئلتك بظاهرة الخوف من الإسلام فى العالم الإسلامي. نعم هناك أناس فى العالم الإسلامى يخشَون الإسلام إما بسبب تغربهم أو بسبب الظهور اللامع للأصوليات والجهاديات والصحويات. الإسلام السياسى هو داءٌ عياء بالفعل لأنه يفهم الدين فهماً جديدا، ولأنه يريد استخدام الدين فى الوصول للسلطة والإضرار بالدولة الوطنية.



ماذا تعنى بفهم الإسلام فهما جديدا لدى الإسلام السياسي؟ هل تقصد فهما غربيا أو فهما يفرض تصورا بعينه على الدين؟



أعنى بذلك عقائدية الحاكمية، وتطبيق الشريعة، والدولة الإسلامية التى تستعيد الشرعية فى الدولة والمجتمع، وتحويل الشريعة إلى قوانين للإلزام بتطبيقها فى دولةٍ تقيمها أحزابهم أو تستولى على السلطة فيها.



الدولة



السياسة مشكلتنا والدولة الإسلامية مستحيلة كما ذهب وائل حلاق. ما هى هذه الدولة ولماذا تستحيل عمليا؟



يضعنا وائل حلاق ــ وهو بالمناسبة أكبر الدارسين المعاصرين للفقه الإسلامى القديم ــ بين مستحيلين: الأول: أنّ الدولة الغربية الحديثة شرٌ على نفسها وعلى العالم ومن المستحيل الدخول فيها باعتبارها شرا مطلقا وعلى الإسلام والمسلمين بالذات.



والثانى أنّ الدولة الإسلامية سواء فى صيغتها الكلاسيكية الرائعة أو فى محاولات التلاؤم مع الحداثة الغربية، تظل مستحيلة التحقق للانقضاء والفوات، كما أن التلاؤمات فاشلة وغير مقنعة. وهكذا ستظل المواجهة الأبدية إلى أن يتحطم الغرب أو يتحطم المسلمون تماما!. المسلم لا يبقى مسلما إذا حاول الدخول فى الحداثة، والحداثة التى أرغم الغرب العالم عليها إجرامية وغير إنسانية.



ولذلك ختمتُ مراجعتى الطويلة لكتابه «الدولة المستحيلة» 2013 ببيت الشعر العربي: المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار أما الدولة الإسلامية ــ مشروع الإسلاميين للوصول للسلطة ــ فهى تركيب أو Construct مملوء بالعقائديات والثغرات فى الوقت نفسه.



تطبيق الشريعة يعنى تحويل الدين إلى قوانين والدين فيه أحكام لكن لا يمكن تحويله إلى قانون.



ما هى خطورة تحويل الشريعة إلى قوانين مدنية؟



الشريعة هى عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات وهى لا تشكو من عدم التطبيق، وإلاّ لكان معنى ذلك أننا فقدنا الإسلام، ولن نستعيده إلاّ إذا حكم الصحويون أو أيديولوجيو الإسلام السياسى وطبقوا الشريعة كما يفهمونها بالقوة!. هى شعاراتٌ يغترُّ بها الكثيرون من العامة.



وكيف نخرج من هذا المأزق؟



لا حلّ للخروج من هذا المأزق إلاّ بتجديد تجربة الدولة الوطنية ونجاحها. منذ محمد عبده نعرف أنّ الإسلام لا يمتلك مذهباً سياسياً عقدياً، والإمامة قديماً عند أهل السنة ليست من أصول الاعتقاد (مثلما هى عند الشيعة) بل هى من المصلحيات وليست من التعبديات.



وليس من مهامّ الدولة تطبيق الدين أو الشريعة، بل مهمتها حسن إدارة الشأن العامّ. ويضيف إليها الماوردى مهمة «حراسة الدين على أصوله المستقرة وأعرافه الجامعة». فالدولة التى أكثر سكانها أو مواطنيها مسلمون هى دولة إسلامية، لكنها لا تختلف عن أى دولةٍ فى العالم. والمشكلة ليست فى الانفصال ولا فى الاندماج، والدين فى المجتمع وثقافته. ولأنّ الدولة عاملةٌ عند المجتمع يكون عليها أن تحرس دينه حتى لا يحدث اضطراب أو انقسام أو تشرذم.



وأنا أنظر إلى أطروحات الإسلاميين باعتبارها انشقاقات فى الدين، تريد تحويله من قوة ناعمة، إلى حاضن للتطرف والإرهاب الجارى باسمه.



هل تراهن فى مشروعك الفكرى على الدولة الوطنية مستبعدا فكرة وجود دولة فى الإسلام كما قال سلفك على عبد الرزاق؟



دولتنا الوطنية المدنية هى الحاضر والمستقبل مثلما هى كل دول العالم. ونعم هناك تشابك بين الدين والدولة فى بعض المجالات، لا ينبغى أن يتحول إلى اشتباك كما حصل ويحصل. المسلمون يحبون أن تكون هناك علاقات انسجام بين دينهم ودولتهم.



وما وجدنا بعد الصيغة التى تحقق هذا الانسجام ليس بالدمج كما يحصل فى إيران بعد إسقاط الدولة الوطنية، وليس بالانتقائية الخالقة للتوترات كما فى الكيان الصهيوني.



لدى يهود إسرائيل هناك توحيد بين القومية والدين فى الأيديولوجيا الصهيونية وفكرة الكيان، أما فى الممارسة فالتوترات شديدة الأهوال، والتمييز متفاقم ليس بين اليهود وغيرهم فقط؛ بل وبين يهود إسرائيل أنفسهم!



فى هذا السياق تطرح ما تسميه السردية الجديدة للإسلام؟ ألم ينته عصر السرديات الكبري؟



نعم عندى مشروعٌ للإصلاح الدينى الجذري، أو تغيير رؤية العالم فى اعتبار المسلمين، وقد سميته: سلامة الدين وسلام العالم: نحو سرديةٍ جديدةٍ للإسلام.



وتفاصيله كثيرة، لكننى ألخّصه فيما يلي: مناط العلاقة بين الله وعباده هو الرحمة كما يصرّح بذلك القرآن- ومناط العلاقة بين الناس التعارف، كما يصرح القرآن أيضاً- والتزامات المسلمين تجاه أنفسهم وتجاه العالم: الضروريات الخمس(مقاصد الشريعة ).



هل تقصد أنك تطرح خطابا دينيا جديدا ينطلق من واقع المسلمين، وهل الواقع مقدم على النص أم أن التأويل هو السلاح المعرفى الجديد لهذه السردية؟



هى رؤيةٌ جديدةٌ للدين وليس للدولة. إنما بها نحقق السكينة فى الدين، ونعمل على تجديد تجربة الدولة الوطنية، ونقيم علاقات ودية مع العالم.



ولا تستند هذه السردية إلى إرادة الخروج من أهوال العقود الأخيرة فقط؛ بل وإلى رؤيةٍ أُخرى للموروث والتاريخ الفكرى والثقافى العربى والإسلامى تقوم على أفهام أخرى للاستمرارية والفهم والتجاوز والتأويل (قارن بكتابي: التراث العربى فى الحاضر، النشر والقراءة والصراع( 2014).



ولكن البعض يدعو إلى قطيعة معرفية مع التراث؟



نعم، كُتبت مشروعات ضخمة فى القطيعة مع الموروث الذى ما يزال يعيش فينا. ومنذ مؤتمر الكويت(عام 1974) عن الأزمة الحضارية، والذى شارك فيه كبار المثقفين العرب، هناك اقتناع فى أوساط المثقفين يصل إلى درجة الاعتقاد أن الموروث المتخلف هو الحائل دون الدخول فى الحداثة، وهذا وهمٌ كاذب.



الإسلام ما صنع التأزم كما يقول الحداثيون، وهو لا يستطيع إخراجنا منه كما يذهب لذلك الصحويون. لا بد من تجديد تجربة الدولة الوطنية؛ وبها يستعيد الدين سكينته، وتطمئن الدولة إلى استقرار شرعيتها، فيبادلان الانسجام والاحتضان.