عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الطهطاوى وفلوبير بين «باريز وإسنا»
9 يوليو 2021
د . فوزى الشامى ;


صاحب مدام بوفارى جاء إلى مصر واستضافته الراقصة كوتشوك.. وصاحب تلخيص الإبريز يغرق فى الترجمة







فى الذكرى العشرين بعد المائتين لميلاد واحد من رواد النهضة العلمية والفكرية فى مصر، الأديب رفاعة رافع الطهطاوى (1801 – 1873) ابن قرية طهطا بمديرية سوهاج، والذكرى المائتين للأديب الروائى الفرنسى جوستاف فلوبير (1821 – 1880)، المولود فى مدينة روون بفرنسا، نتذكرهما فى أسطر قليلة فى هذه المناسبة المشتركة لعام 2021، لأنهما من الشخصيات المهمة المؤثرة منذ القرن التاسع عشر.













توافق الأديبان صاحبا هذه الذكرى فى أنهما من الأدباء المهمين والمؤثرين فى القرن التاسع عشر وإلى اليوم، إلا أن الطهطاوى يزيد فى أنه كتب بلغته العربية وأيضاً بلغة فلوبير الفرنسية، فترجم العديد من أمهات الكتب من كلتا اللغتين إلى الأخري، إضافة الى أن الطهطاوى عمل فى إتجاهات أخرى كثيرة فى الإصلاح المجتمعى والعلمى والمعرفي، فهو من قادة التنوير والإصلاح فى مصر والبلدان العربية، فى حين أن فلوبير انصب اهتمامه فى القص الأدبى فقط، وكان يكتب ببطء وعلى فترات طويلة، مما جعل إنتاجه قليلا مقارنة بأدباء عصره، وكان هذا لا يعنى الكسل فى الكتابة، ولكنه كان يتأنى فى اختيار اللفظ الدقيق والكلمة المناسبة وتركيب الجمل من الناحية الجمالية والإبداعية وكأنه ينحت جدارية أو يرسم لوحة.



كما توافقا فى أن كلا منهما يمتلك على وجهه شاربا كبيرا يميزه، فكان شارب فلوبير عريضاً يغطى شفة فمه العليا وتكاد السفلى تطل قليلاً. شارب ذو جناحين ملتويين يشبهان طرفى قارب الجندول الفينيسي. أما الطهطاوى فقد دعم شاربه الأكثر تهذباً بلحية كثيفة ورشيقة تلتحم بطرفيه السفليين. اختلف الأديبان الكبيران بطبيعة الحال والمنشأ والبيئة فى أمور حياتية وتقاليد وعادات كثيرة، وبالتأكيد فى أمور أخري، من أهمها تجربة سفر كل منهما إلى موطن الآخر، وكيف اسثمر كل منهما هذه السفرة، رغم اختلاف مدتيهما.



فى سن السادسة عشرة التحق الطهطاوى بالأزهر الشريف ليكمل تعليمه بعد أن حفظ القرآن الكريم ودرس النحو واللغة، وحفظ كثيرا من المتون التى كانت متداولة فى هذا الوقت على أيدى الشيوخ والعلماء من عائلته، حيث نشأ وسط أسرة من رجال الدين والقضاة، وقد تعلم فى الأزهر على يد الشيخ حسن العطار، كثير الأسفار، وحذا حذوه لأنه كان يقرأ فى الأدب والتاريخ والجغرافيا والطب والفلك، مما منحة سعة أفق ومعرفة واسعة.



تخرج الطهطاوى فى سن الحادية والعشرين، وبتوصية من أستاذه أثناء خدمته العسكرية أرسله محمد على باشا على رأس أول بعثة دراسية علمية مكونة من أربعين طالباً إلى فرنسا، على متن سفينة حربية فرنسية سنة 1826، ليكون إماماً وواعظاً لأعضاء البعثة. وعاد الى مصر عام 1831 بعد أن أمضى هناك خمس سنوات، ثم عمل بالترجمة فى مدرسة الطب فى مصر، وأسس مدرسة للترجمة وكان أول مدير لها، والتى أصبحت فيما بعد كلية الألسن.



أما فلوبير فهو ابن لعائلة برجوازية، نشأ أباه فى مدينة شامبانيا الفرنسية، ثم أصبح أستاذاً ورئيس قسم الجراحة بأحد المستشفيات، وكان يصطحب ابنه جوستاف لحضور دروس التشريح معه، فقد عاش فى بيئة تضم عددا من الأطباء والجراحين، ودرس الابن الحقوق فى جامعة باريس، وأصيب بنوع من أمراض الصرع، ومع ذلك كان كثير الأسفار، كما عكف على قراءة ودراسة أعمال الكاتب الإنجليزى وليام شكسبير.



ومن أسفاره قدومه الى مصر سنة 1851، حيث تعرف على الراقصة التركية الشهيرة كوتشوك، بالقرب من خان الشناقرة أو وكالة شنقير ومعبد إسنا، والتى دعته لزيارتها فى بيتها الفاخر العامر بإسنا فى الأقصر، ويقال أنها هى التى دعته لزيارة مصر. وبذلك أضاع فلوبير وقته فى مصر بين نزواته ورغباته، على عكس صديقة مكسيم دوكان الذى رافقه، والذى أحضر معه كاميرات سجل بها صور المعابد، ورسم الوجوه المصرية من الصعيد، كما كتب عن نهر النيل. ولم يستثمر فلوبير رحلته أدبياً وسط هذا الزخم التاريخى من الحضارة العريقة والطبيعة المغايرة الملهمة.



كتب فلوبير مجموعة من الروايات، منها مدام بوفاري، والتربية العاطفية، وسلامبو، وثلاث حكايات، وإغراء القديس أنطونيوس. وكان نموذجا للكاتب الواقعى الملتزم بدقة تعبيراته وعذوبة اسلوبه، وكانت روايته مدام بوفارى، هى التى أرسى بها قواعد الأدب الواقعى الذى بدأه من قبله مجموعة من الأدباء الفرنسيين، وكان هو أكثرهم ميلاً إلى الرومانتيكية. وروايته هذه تعتبر أولى الروايات فى الأدب المكشوف العارى أو الفضائحى. ورغم أنه يقال إن هذه الرواية حقيقية وواقعية، إلا أنه من المحتمل أن علاقته بكوتشوك هى التى أوحت اليه من بعيد بأجواء هذه الرواية التى نشرت سنة 1856، أى بعد رحلته الى مصر، حيث إنها مليئة بالفضائح والخيانات وجاءت نهايتها بشكل مأساوى كبير. ولكن من الناحية الأدبية والحبكة الدرامية التى تصل بك إلى مرحلة كأنك تشاهد فيلما سينمائيا مُحكماً ورائعاً، فهى رواية فى أعلى مراتب الإتقان والإبداع.



ونعود إلى الطهطاوى الذى لم يكتف بكونه إماماً فقط للبعثة، كما هو محدد لمهمته، ولكنه اغتنم فرصة تواجده فى فرنسا فتعلم اللغة الفرنسية، واطلع على الحياة العصرية فى باريس، التى أطلق عليها فى عنوان أهم كتبه (باريز)، وقرأ أمهات الكتب وترجم ما استطاع منها مع شرحها وتفسيرها. وبعد مرور خمس سنوات أدى الطهطاوى امتحان الترجمة، فقدم مخطوط كتابه الشهير «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، وهو عمل يحكى أحوال العلوم الاجتماعية والجغرافية والسياسية والاقتصادية فى مصر وفرنسا، وقد قضى الطهطاوى خمس سنوات فى إعداد هذا العمل التاريخى البديع.



فى هذا العام 2021، ستحتفل جهات ومجتمعات أدبية فى أوروبا بذكرى جوستاف فلوبير، وعلينا نحن أيضا أن نحتفل بذكرى ابن مصر رفاعة الطهطاوي، لنتذكره ونمجده ونُخبر الأجيال الجديدة بدوره التنويرى العظيم، فَذكر أبناء الوطن من العلماء والمصلحين والرواد فى العلوم والآداب والفنون والقادة المخلصين وأبطال الدفاع عن الأرض على مدار التاريخ، يُربى ويُنمى لدى وعى وحس الأجيال الجديدة الولاء والوفاء والانتماء للوطن.