عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أم كلثوم.. زمن الغناء وعصر الريادة
18 يونيو 2021
يكتبها فاروق جويدة


سوف تبقى قصة أحمد رامى شاعر الشباب، وأم كلثوم واحدة من أشهر قصص الحب فى تاريخ الغناء العربى.. ويكفى مئات الأغانى والقصائد التى شدت بها أم كلثوم من كلمات رامى.. والشيء المؤكد أن رامى أحب أم كلثوم وأنها أحبت شعره واستطاعت أن تحرك مشاعره كما أرادت..



> ولكن لا أحد ينكر دور رامى فى تشكيل شخصية وثقافة أم كلثوم منذ التقيا وهى فتاة صغيرة وهو شاب مثقف موهوب عائد من بعثة دراسية فى باريس.. واستطاع أن يعيد تشكيل فتاة ريفية قادمة من احدى قرى المنصورة فعلمها اللغة ونطق الحروف وأسلوب الكلام والحوار وحتى ملابسها.. إن رامى صنع أم كلثوم جديدة هى التى غنينا معها وأطربتنا بكلماته.. عندما رحلت أم كلثوم أقام الرئيس السادات حفل تأبين لها ووقف رامى يشدو قصيدته الشهيرة فى رثائها



ما جَالَ فِى خَاطِرِيُّ أَنِّيُّ سَأَرْثِيهَا



بَعْدَ الَّذِى صُغْتُ مَنْ أَشْجَى أغَانِيَهَا



قَدْ كُنْتُ اِسْمَعْهَا تَشْدُو فَتُطْرِبُنِي



وَالْيَوْمَ اسمعنى أَبْكِى وَأَبْكِيهَا



صَحِبَتْهَا مِنْ ضُحَى عُمْرِى وَعِشْتُ لَهَا



أَزَفَّ شُهَّدُ اِلْمَعَانِى ثُمَّ أُهْدِيهَا



ويومها بكى رامى وأبكانا معه..



> لقد أحب رامى أم كلثوم ومنحها أجمل أشعاره وسنوات عمره.. وكنت دائما أقول إن رامى ضحى بشعره وهو شاعر كبير وكتب العامية الجميلة لأم كلثوم .. وقد عاش بأغنياته رغم أنه ظهر فى جيل من الشعراء الكبار شوقى وحافظ وكانت أم كلثوم هى سبب شهرته وانتشار كلماته.. إن كلمات رامى فى كل ما كتب تؤكد حبه لام كلثوم ابتداء من «هجرتك، وسهران، وجددت حبك، ويلى كان يشجيك أنينى».. إن كل أغنية كتبها رامى كانت سطورا فى قصة حب خالدة.. سألت الموسيقار محمد عبدالوهاب عن السر فى شخصية أم كلثوم قال كان لها بريق خاص يتجاوز حدود المشاعر العادية..



> فى حياة أم كلثوم قصص حب مثل أى امرأة أحبت، فقد أحبت الأمير شريف صبرى خال الملك فاروق.. وكثيرا ما غنت فى قصره الشهير على نيل جاردن سيتى.. وحين طلبها للزواج اعترضت الأسرة المالكة، ولكن الملك لم يتردد فى أن يمنحها وساما رفيعا من أوسمة الأسرة وهو صاحبة العصمة بعد أن غنت له «ياليلة العيد» فى حفل النادى الأهلى الذى حضره الملك..



> فى كتابها عن أم كلثوم للدكتورة نعمات احمد فواد وهو من أجمل ما كتب عنها.. قالت: إن أم كلثوم أحبت الموسيقار محمود الشريف، ورغم أن قصة الحب لم تدم إلا أياما قليلة فإنها وجدت فيه النموذج الذى أحبته، فقد كان فنانا مرهفا ومصارعا فى نفس الوقت.. وقد عرفت محمود الشريف عن قرب وكثيرا ما تحدث عن حبه لام كلثوم.. كنا نلتقى معه ياسمين الخيام وأنا حين لحن لها قصيدتى عشقناك يا مصر، وغنتها ياسمين الخيام أمام الرئيس السادات فى نهاية السبعينيات.. كان محمود الشريف يتحدث كثيرا عن قصة حبه لام كلثوم، وكيف تزوجا أربعة أيام فقط ثم تم الطلاق بمرسوم ملكى لم يعرف عنه شيئا.. كان محمود الشريف من أرق وأعذب الملحنين فى تاريخ الموسيقى المصرية، وعاش حياة بسيطة فى شقة متواضعة فى باب اللوق وإن بقى وفيا لذكرى أم كلثوم طوال حياته..



> مازلت أعتقد أن مصطفى أمين كان وراء طلاق أم كلثوم من محمود الشريف، وهل كان أمرا ملكيا أم قصة صحيفة حركت الرأى العام.. كان مصطفى يعرف أدق أسرار أم كلثوم وحين دخل السجن أرسلت له أبياتا من الأطلال..



أَعْطِـــنى حـُرِّيَتى اَطـــْلِقْ يَــــدَيَّ



إنَّنى أَعْطَيْتُ مَا اسْتَبْقَيْتُ شَيَّ



آهِ مِـــنْ قـــَيْدِكَ أَدْمَى مِعْصَــــمي



لِمَ اُبْقــــِيْهِ وَمَا أَبْقَى عَلَيَّ



مَا احْتِفَاظى بِعُهُودٍ لَمْ تَصُنْهَا



وَإِلاَمَ الأَسْرُ وَالدُّنْيا لَدَيَّ



> كثيرون أحبوا كوكب الشرق الإنسانة وبقيت حياتها الخاصة سرا من أسرارها.. ولم نعرف من أزواجها غير د. حسن الحفناوى الطبيب المشهور والد الصديق د. محمد الحفناوى وقد كان آخر محطات حياتها قبل أن ترحل.. قلت إن أم كلثوم أحبها كثيرون ولكن بقى هذا السؤال الغامض ترى من أحبت أم كلثوم.. قال لى عبدالوهاب ذهبت أزورها ووجدتها متعبه حزينة وسألتها ماذا فيك قالت:لا شيء حولى يسعدنى قلت:معقول أم كلثوم التى تملك الدنيا لا شيء يسعدها قالت:هذه هى الحقيقة قلت:اذهبى إلى باريس عالم جديد وحياة جديدة قالت: ليس المهم السفر ولكن مع من أسافر.. من كان يصدق أن الصوت الذى اجتمع العالم على حبه لا يجد حبيبا يداوى وحشته..



> وتبقى أم كلثوم هذه الأسطورة التى حركت وجدان الملايين حبا وأشواقا وزمانا جميلا.. ولا أحد يعلم ترى من أحب هذا القلب الذى ملأ حياتنا حبا.. أحبها رامى وكتب فيها أجمل وأحلى ما سمعنا وغنينا.. وأحبها خال الملك وأحبها محمد القصبجى، وظل كل سنوات عمره يعزف على العود خلفها.. وأخذت من السنباطى شموخه وروضت عبدالوهاب الجواد الجامح.. واستعادت شبابها الغنائى مع شاب واعد اسمه بليغ حمدى وقبل هذا كله أخذت الملايين معها فى أى أرض تشاء ..



> قال لى السنباطى كنا نقف فى محطة المنصورة أنا وأبى بعد حفل غنينا فيه واقترب منا رجل ومعه ابنته الصغيرة وصافح أبى واتضح أنهما أصدقاء.. وكانت ابنته هى أم كلثوم وتصافحنا ولم أعرف يومها أننا سوف نلتقى بعد ذلك، وان مصيرنا واحد.. عندما ماتت أم كلثوم شعرت باليتم فلا شيء بعدها.. فى كل شيء حولنا يتجسد زمن أم كلثوم..



> هناك أشخاص تصنعهم الأحداث والأيام والزمن وهناك أشخاص يصنعون الزمن.. ونحن أجيال عاشت زمن أم كلثوم ويكفى أنها جمعت كل هذه الكوكبة احمد رامى والسنباطى وعبدالوهاب والقصبجى وزكريا أحمد وبيرم وبليغ.. كل حديقة من هذه الأسماء كانت أم كلثوم طائرا مغردا فى سمائها طيورها.. وليس المهم الآن أن نعرف من أحبت أم كلثوم، ولكن يكفى أننا أحببنا على صوتها وعشنا أجمل ذكرياتنا معها.. ورغم رحيل سنوات العمر مازلنا نسترجع معها أحلى وأغلى أيامنا..



> كانت عبقرية أم كلثوم أنها روضت كل الأشياء حولها وجمعت المواهب الفذة من الشعراء والمبدعين وغنت لهم جميعا أمير الشعراء أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وبيرم التونسى ومرسى جميل عزيز .. بل إنها روضت كل رموز السلطة من الملك فؤاد إلى الملك فاروق والرئيس عبدالناصر والرئيس السادات..



> من وقت لآخر كنت أسأل كيف عاش رامى متغنيا بحب أم كلثوم فلم يكتب كلاما جميلا لسواها.. وكانت مصدر حبه وجنونه وعشقه وكيف عاشا معا عشرات السنين وكانت تخصص له يوم الاثنين من كل أسبوع تقرأ الشعر وتتلو القرآن وهو يجلس أمامها مثل حارس المعبدالذى يخاف عليه من كل شيء.. هل هى قصص حب أم تفان أم احتواء أم هو الفن حين يصبح قداسا وصلاة وعالما من الترفع والإبداع تذوب فيه كل الأشياء؟!



> كثيراً ما أسأل نفسى فى ليالى الوحشة والصقيع هل يمكن أن يجود الزمن علينا ولو بلحظات من هذا الوهج الخلاق ونعيش زمانا يشبه هذا الذى عشناه.. هل يمكن أن تطل علينا أم كلثوم أخرى أم أن للزمان أوقاتا يستريح فيها وللأيام مواسم وفصولا.. وأن الحياة حين يطل الخريف تأخذ الأشجار والعصافير إجازة..



> عندى يقين أن الزمن حظوظ وأن حظ جيلنا أننا عشنا عصر أم كلثوم وهذه النخبة من الكتاب والشعراء والمبدعين وإن كان الحظ خاننى وندمت على شيء أن الأقدار حرمتنى من أن أرى العقاد وطه حسين وأم كلثوم ورامى وإن كنت محظوظاً فى قربى من عبدالوهاب والسنباطى .. كان عصراً ذهبياً جمع كل هذه الرموز التى صنعت لمصر المكانة والريادة والإبداع الجميل..



 



 



ويبقى الشعر



مَا عُدَّتُ أَعْرِفُ



أين أنْتَ الآنَ يَا قَدْرِى



وَفِيٌّ أَيْ الحَدَائِقُ تُزْهِرِينْ ؟



فِى أَيّ رُكنٌ فِى فَضَاءِ الكَوْنِ



صرتِ تُحَلِّقِينْ؟



فِى أَيْ لُؤْلُؤَةُ سَكَنَتْ..



بأى بَحْرٌ تَسْبَحِينْ؟



فِى أَيْ أَرْضٍ..



بَيْنَ أحْداق الجَدَاوِلُ تُنَبِّتِينْ؟



أَيَّ الضُّلوع قَدِ احْتَوتك ِ



وَأَيُّ قَلْبِ بَعْد قَلْبِى تَسكُنِينْ



<<<



مَازٍلَّتُ أَنْظُرُ فِى عُيونِ الشَّمْسِ



عَلًَك فِى ضيِاها تُشَرِّقِينْ



وَأَُطِلُّ لِلبَدْرِ الحَزِينِ لَعَلنَّىِ



أَلْقَاكِ بينَ السَّحْبِ يَومًا تعبرِينَ



لَيلٌ مِنَ الشَّكّ الطَّوِيلِ أَحَاطَنِى



حَتَّى أَطَلَّ الفَجْرُ فِى عَينَيْكِ نهرًا مِنْ يَقِينْ



أَهْفُو إِلَى عَينَيْكِ سَاعَاتٍ ..



فَيبدَُو فِيهِمَا



قيْدُ.. وعَاصِفَةٌ..عُصْفُورُ سَجيِنْ



أَنَا لَمْ آزَلْ فوَقَ الشَّواطئ



أَرْقُبُ الأَمْواجَ أَحْيانًا



يُراوِدُنِى حَنِينُ العَاشِقينْ...



<<<



فِى مَوكِبِ الأَحلَامِ ألمحُ مَا تَبقَّى



مِنْ رَمادِ عُهودِنَا..



فَأْرَاكِ فِى أَشْلائِهَا تَتَرنَّحِينْ..



لَمْ يبْقَ مِنْكَ



سَوى ارْتعَاشَةِ لَحْظَةٍ



ذَابَتْ عَلَى وَجْهِ السّنِينْ



لَمْ يَبْقَ مِنْ صَمْتِ الحقَائِبِ



والكُئوسِ الفَارغَات سِوَى الأَنِينْ



لَمْ يبقَ مِنْ ضَوْءِ النَّوَافِذِ



غَيرُ أَطْيافٍ تُعَانقُ لهفَتِى



وَتُعِيدُ ذِكرَى الرَّاحِلينْ..



مَازِلتُ أَسْأَلُ :مَا الَّذِى



جَعَلَ الفَرَاشَة تُشْعِلُ النِّيرانَ



فِى الغُصْنِ الوَدِيعِ المسْتْكِينْ؟!



مَازِلتُ أَسْأَلُ :مَا الَّذِى



جَعلَ الطًّيورَ تَفِرُّ مِنْ أَوْكَارِهَا



وَسْطَ الظَّلَامِ..



وَتَرْتَمِى فِى الطِّينِ؟!



<<<



ما عُدْتُ أَعْرِفُ



أين أَنْتِ الآنَ يَا قَدَرِى



إِلَى أَى المدائِنِ تَرحَلِينْ؟



أَنَّى أَرَاكِ



عَلَى جَبِينِ الموْجِ..



فِى صَخَبِ النَّوارِس تَلْعَبِينْ..



وَأرَى عَلَى الأُفْقِ البَعِيدِ



جَناحَكِ المنقُوشَ مِنْ عُمرِى



يحلَقُ فَوْقَ أَشْرِعَةِ الحَنِينْ



وَأرَاكِ فِى صَمْتِ الخَرِيفِ



شُجَيْرَةً خَضْراءَ



فِى صَحْرَاء عُمْرِى تَكْبُرِينْ



وَيَظَلُّ شِعْرِى



فِى عُيُونِ النَّاسِ أحْداقًا



وَفِيٌّ جَنْبِيٌّ سِرًّا..لَا يَبينْ



لَمْ يبقَ مِنْ صَوْتِ النوارِس



غَيرُ أَصْدَاءٍ تُبعْثِرُهَا الرِّيَاحُ فَتنْزَوِى



أَسَفًا عَلَى المَاضِى الحَزِينْ



أَنَا لَمْ أُزِلْ بينَ النوارِس



أَرقُبُ اللَّيلَ الطَّويلَ



وأشْتَهَى ضَوءَ السَّفِينْ



مَا زِلتُ أَنْتَظِرُ النوارِسَ



كُلَّمَا عَادَتْ مَوَاكِبُها



وَرَاحَتْ تَنثُرُ الأَفْرَاحَ فَوقَ العَائِدِينْ



<<<



مَا عُدْتُ أَعْرِفُ..



أين أَنْتِ الآنَ يَا قَدَرِى



وفِى أَيّ الأَمَاكِنِ تَسْهَرِينْ؟!.



العَامُ يَهربُ مِنْ يَدِى



مَا زَالَ يَجْرِى فِى الشَّوَارِعِ..



فِى زِحام النَّاسِ مُنْكَسِرَ الجُبَّينْ



طِفْلٌ عَلَى الطُّرقَاتِ



مَغْسُولٌ بَلْونِ الحبّ



فِى زَمَنِ ضَنِين ْ



قَدْ ظَلَّ يَسْأَلُ عَنْكَ كُلَّ دَقِيقَةٍ



عِنْدَ الوَدَاعِ، وَأَنْتَ لَا تَدْرِينْ



بِالأَمْسِ خَبَّأَنِى قَلِيلًا فِى يَدَيْه..



وَقَالَ.. فِى صَوْتٍ حَزِينْ:



لَوْ تَرجِعِينْ



لَوْ تَرجِعِينْ



لَوْ تَرجِعِينْ



قصيدة "لو ترجعين" سنة 1998