«الصندوق».. كوميديا ما وراء اللغة
تخيل أنك فى زحام مشاغلك اليومية ولهثك المستمر سعيا لسداد التزاماتك وقضاء ديونك.. أو حتى فى طموحك لتحقيق أحلامك، تجد نفسك فجأة مدفوعا إلى مكان لا تعرفه.. أربعة جدران بلا باب أو نافذة.. بلا مخرج ولا منقذ.. ولا زمان أيضا.. فقط أنت مطالب بالتعايش مع أناس لا تعرفهم، وجدتهم فى المكان دون اختيار منك.. فكرة عبثية وموقف مؤرِّق بالتأكيد.. ولكنه بالطبع يستدعى التساؤلات ويحرضك على التفكير ومراجعة ذاتك مرة أخرى.. ومن تلك الفرضية داعب عرض الصندوق - المقام حاليا على مسرح الطليعة – خيال متفرجيه بكوميديا راقية أخرجها رضا حسنين وألفها محمد زناتى.
سائق بسيط بائس يسعى لتوصيل «زبونة» ليكمل قسط جهاز ابنته العروس.. باليرينا شابة هى راكبة التاكسى التى فقدت طريقها مع نفس السائق خلال ذهابها لافتتاح ليلة العرض الأولى فى أول بطولة مطلقة لها على المسرح.. شاب يائس من فشله وحياته فيقرر السفر خارج البلاد ولكنه يفشل حتى فى ذلك.. رجل أمن ــ ذو أصول صعيدية- فى أحد المولات يضطر لارتداء زى سبايدر مان لإسعاد أطفال المول ولكنه فى الحقيقة ينتهز هذه الفرصة للتخفى من الثأر الذى يلاحقه خاصة حينما يكتشف أنه مكلف بإنقاذ الأطفال من قنبلة مخبأة فى المول.. عازف جيتار حالم وباحث عن تحقيق طموحه فى أن يصل صوته للعالم كله.. بابا نويل وحيوان الوعل المرافق له خلال توزيع الهدايا على الصغار.. كل تلك الشخصيات التى لا علاقة لها ببعضها البعض تجد نفسها فجأة بين تلك الجدران بلا مقدمات أو مبررات وفى استقبالها شخص سكير كلامه غير مترابط أو مفهوم.. يتصورون فى البداية أنه السبب فى وجودهم معا.. وينتابهم الخوف من أن يكونوا قد ماتوا قبل تنفيذ رغباتهم فى الحياة.. حتى يكتشفوا أنه مثلهم تماما..
دراما عبثية يحرك أحداثها حوار كوميدى ساخر، اللغة فيه هى البطل الأول، نقطة انطلاقه من شخصية السكير التى لعبها ياسر الطوبجى ببساطة واقتدار شديدين، فقد اعتمد مؤلف النص محمد زناتى على بث الكوميديا من ذلك الحوار وتلك الأشعار العميقة متعددة الدلالات والصادمة لشخصيات العمل، فذلك السكير يبدو منذ بداية العرض لا يبالى بأى شيء، ونكتشف ذلك من أغنية البداية: «إيه هيفرق.. لو صحيت يوم يا صاحبى.. ملقتش نفسك.. إيه هيفرق.. معادتش تفرق.. لو فى يوم جيت تنده عليك.. معرفتش حتى اسمك.. إيه هيفرق!» بينما تتلاحق الكوميديا بعد ذلك خلال تعرفه بالشخصيات الواحد تلو الآخر، والناتجة فى تعامله معهم وإجاباته على تساؤلاتهم بكلمات تبدو مضحكة وساخرة ولكنها محملة بالشجن والتساؤلات المحيرة.. خاصة وأن كل شخصية تحمل فى داخلها مبرر خلاصها من عدمه.. فعازف الجيتار والباليرينا هما أكثر الشخصيات بحثا عن النجاح والأمل فى غد أفضل.. ولأن بابا نويل هو مانح السعادة يأتى الحل من خلاله حينما تعود له طاقته المسلوبة منه فيختار الجميع أن يكون السكير هو اول من يدفع به بابا نويل بين الجدارن لينقذهم جميعا.. باعتباره يملك قدرا من حكمة الحياة..
وفى فضاء مسرحى لجأ فادى فوكيه إلى جعله عاريا من الديكور باستثناء بار وكرسيين وساعة حائط لا تعمل كدلالة على اللازمن.. وقطع إكسسوارات بسيطة للغاية على مستوى مرتفع فى عمق المسرح وبما يتناسب مع خواء المكان وعدميته.. جسد ناصر شاهين ثنائيا كوميديا لافتا مع ياسر الطوبجى، فلعب شخصية السائق البسيط المغلوب على أمره والمنساق لشرب الخمر مع السكير يأسا من حياته بحرفية ليست جديدة عليه.. بينما كون طه خليفة مع أميرة عبد الرحمن ثنائيا آخر بالغ العذوبة فى تعبيرهما عن طموح الشباب الباحث عن الأمل وتحقيق الحلم طالما كان صاحبه يصدقه ويؤمن به.. وحمل كل منهما وجهة نظر غير تقليدية فى تجسيد دوره.. وإن كنت أختلف مع المخرج فى طبيعة شخصية عازف الجيتار التى لعبها طه خليفة.. فقد كانت تحتاج مطربا وليس ممثلا.. خاصة وأن صوته ليس طربيا.. فبدا ظهوره فى البداية وكأنه يحمل دلالات ساخرة من مطربى المهرجانات مثلا.. بينما تكشفت طبيعة الشخصية المغايرة تماما لذلك مع توالى الأحداث.. وهو ما حاول الممثل تجاوزه بذكاء من خلال أدائه الحماسى الذى يعكس ثقافة العازف وساعده فى ذلك حوار النص.. ولكنى كنت أتمنى ان يتم تقديم أغنيات تناسب طبقات صوته حتى وإن كانت مسجلة ليؤديها بما يخدم طبيعة دوره كفنان طامح.. وعمل ثنائيات راقصة بينه وبين الباليرينا تعمق أهمية الحلم والطموح والفنون.. وليس الاكتفاء بحركات بسيطة جاءت على استحياء ضمن الحركة المسرحية المرسومة.. أما محمود فتحى أو المسافر فهو طاقة كوميدية تلقائية ينتظرها مستقبل مشرق.. وأسعدنا كثيرا ظهور محمد عبد الخالق فى شخصية سبايدرمان بلهجته الصعيدية والتى تسبب فى ظهوره فى خلق مفارقات كوميدية بالغة العمق والناتجة عن هروبه من الثأر رغم أنه هو نفسه حامى الأطفال فى المول.. فى حين كانت الثنائية الثالثة بين أحمد عبدالحى بأدائه الطفولى لشخصية بابا نويل وتشبثه بالوعل المرافق له الذى لعبه طه السادات بأداء صامت جذاب..
العرض عودة محمودة لياسر الطوبجى إلى المسرح بعد غياب 9 سنوات، نتمنى أن تتبعها عودة كثير من نجوم المسلسلات أيضا لدعم الحركة المسرحية بعروض من هذا القبيل، والتى تحمل مقومات استمرارها ليشاهدها أكبر قدر من الجمهور.. خاصة فى ظل وجود قيادات واعدة مثل المخرج عادل حسان، والذى بدأ رحلته كمدير للفرقة بإطلاق دعوته للانضمام لنادى مسرح الطليعة ليعود من جديد ملتقى فنيا وثقافيا لكل عشاقه كما كان فى سابق عهده لدى تأسيسه.. ومازلنا ننتظر منه الكثير..