جاءت شهادة عميد الأدب العربي، لعبد العزيز باشا فهمي، الأديب المجمعى الشاعر، والوطنى المناضل، شيخ القضاة والمحامين، فى تأبينه بمجمع اللغة العربية، بيد أن كلمة الدكتور طه حسين لم تكن فقط حديثًا فى لغة وأدب الراحل العظيم، وإنما أبحرت فى معالم هذه الشخصية الفريدة الفذة .. لا تخطئ وأنت تتابع كلمات الأستاذ العميد. أنه يحمل محبةً خالصةً لعبد العزيز فهمى رآها أيضًا فى عيون تلاميذه وأصدقائه ، ظنوا أنه مخلد، أو أنهم سيسبقونه إلى الموت. أعانهم على هذا الظن قوة روحه وقوة عقله وقوة قلبه . بلغ الثمانين وشاخ ووهن جسيمه، ولكن عقله ظل شابًا، كأنه لم يتجاوز الثلاثين، حتى انه يرى معهم أن الحياة شيءٌ لا قيمة له إذا لم يكن فيها عبد العزيز فهمي.
كان مصريّا، لا كالمصريين، يشهد بذلك من صادقوه، ومن خاصموه. فالرجل الحق هو الذى تستقيم له حياته كما يريد هو أن تكون، وكما يريد ضميره النقى وعقله الذكى أن تكون. كذلك كان عبد العزيز فهمي، ذكاءً لا حدّ له، يفهم دقائق الأشياء، وينفذ إلى أعماقها، وكأنما قد خُلق ليسبق إلى دواخل الأمور. مستقيم لا يلتوي، ولا يحب الالتواء أو العوج فى التفكير أو القـول أو العمـل، امتاز فى طلب العلم، وامتاز بعد التخرج فى مدرسة الحقوق، وامتاز فى كل ما تولاه من مناصب.
حتى إذا ما دعا داعى الحركة الوطنية سارع إلى تلبية النداء، وكان آنئذ عَلمًا من أعلام الثقافة المصرية، وعلمًا من أعلام السياسة المصرية، وبطلاً فى الثبات على الرأى والمبدأ، والنضال فى سبيلهما، يبذل الجهد مهما يثقل، ويحتمل الأذى مهما يكن، فكان أسرع الوطنيين استجابةً لدعوة الوطن لأبنائه أن ينهضوا للحصول على استقلاله، وعزته وكرامته.
يشهد الأستاذ العميد، ويشهد كل من عرفوه، ممن عرفوا الثلاثة الذين ذهبوا بمطالب مصر للمعتمد البريطانى .. هو وسعد زغلول وعلى شعراوى .. يشهــد ويشهـدون أن عبد العزيز فهمى كان عقلهم المدبر وروحهم القوية.
احتمل ما احتمل دون أن يستجيب لهوى أو ينشد شهرة ولا صيتًا .. كان قد اقتنع وآمن، فعرف لهما حقهما من ذات نفسه. فلم يضعف ولم يهن ولم يعوج ولم يلتو أو يداهن أو يصانع .. مضى يؤثر ما يرى أنه الحق على كل ما يغرى وما يخيف، فقد كان يحب للرجل أن يكون مؤمنًا بنفسه وبالحق، مستقيمًا فى الإيمان بنفسه وبالحق.
كان عنيفًا فى خصومته وكان قويًّا وفيًّا رقيقًا عذبًا فى حبه ووفائه. وكان إلى هذا كله وقبل هذا كله مثقفًا كأوسع ما تكون الثقافة، وأعمقها. كان الناس يرونه إمام الفقه والقانون، ولم يكونوا يخطئون فى هذا، ولكن الناس لم يكونوا يعرفون ـ إلاّ أقلهم ـ أنه ليس إمامًا فى الفقه والقانون فحسب، ولكنه كان إمامًا فى اللغة والأدب أيضًا.
كان إمامًا فى اللغة والأدب بأدق ما فى هذه الكلمة من معني. ولم يكتسب هذا فى سهولة ولا فى يسر، إنما درس فى المدارس أيام كانت المدارس لا تهمل اللغة والأدب.
ونظرنا فى أول هذا القرن فرأينا رجلين يملكان علينا أمره كله بهذه الثقافة الواسعة العميقة، وبهذه الإحاطة الرائعة المدهشة بأسرار اللغة العربية ودقائقها، وكانا صديقين لا يكادان يفترقان فى يوم من الأيام لطفى السيد وعبد العزيز فهمي.
ولم يكن يقرأ القرآن وحده، ولكنه كان يتعمق فى الأدب والأدب القديم خاصة، وما أعرف أن أحدًا ناقشنى فى الشعر الجاهلى كما ناقشنى فيه عبد العزيز، وما أعرف أن أحدًا أصلح من رأيى فى الشعر العربى كما أصلح من رأيى عبد العزيز، والغريب أنه كان فى أثناء هذا كله محاميًا ممتازًا ثم زعيمًا للقضاء فى الاستئناف والنقض.
يروى الدكتور طه حسين أنه أهداه كتابه فى جنة الشوك، فإذا به بعد أيام يتصل به تليفونيّا، فقد كان قد لزم داره بعد أن ترك القضاء والمحاماة، فيخبره أنه قد قرأ كتابه ولا بد أن يلقاه. سعى إليه الدكتور طه فى نحو العاشرة صباحًا، فلم يتركه إلاَّ وقد تجاوزت الساعة الثانية ظهرًا، وطفق خلال هذه الساعات يقرأ له ملاحظاته على الكتاب، ثم لا يكتفى فيقول له وقد تهيّأ للانصراف: ما رأيك فى أن تأخذ نسختى هذه بما أعملت عليها بخطّى على أن تعدنى إذا أعدت الطبعة الثانية أن تلاحظ ما ترى ملاحظته من هذه العلامات. فوعدته، وأنا أحتفظ بنسخته تلك وأؤكد لكم أنى رجعت إليها أمس فلم أستطع أن أتركها حتى استقصيت ملاحظاته كلها.
كذلك كان عبد العزيز مثقفًا فى اللغة والدين؛ عميق الثقافة مؤمنًا بها أشد الإيمان مترف الذوق فيها إلى أقصى حدود الترف.
أحسست بوجيب قلب طه حسين وهو يودعه، وكأنه واقف على أعتاب قبره .. يقول: نقف هذا الموقف لنقول لأنفسنا إننا يوم شيعنا عبد العزيز إلى مقره الأخير إنما شيعنا الجزء الممتاز من حياتنا، فقد ذهب عبد العزيز بخير ما كان فى حياتنا من نشاط وجهاد ورضى عن أنفسنا وأمل فى مستقبل مصر. مضي، ومضى معه هذا كله! وبقينا فى هذه الأيام نفكر فى الأجيال المقبلة وننظر إلى الجيل الماضى المقبل فنود أن يرى الناس فيه أنفسنا يومًا من الأيام. وإذا أُتيح هذا، فليس من شك فى أن من الشخصيات الأولى التى ستراها الأجيال المقبلة فى حياة مصر أثناء نصف القرن هذا، إنما هى شخصية عبد العزيز. لن يمكن أن يساق العزاء؟ مصر كلها! فقد كان عبد العزيز نورًا لمصر نورًا للمصريين ثم لأسرته!
ولا يترك الدكتور طه موقعه، دون أن يسوق عزاءً خاصّا يصور قلبه كله، وحبه كله، ووفاءه كله .. لصديق عبد العزيز البار: الأستاذ أحمد لطفى السيد.