يولد الإنسان مزودا بملكة الخيال.. ملكة مدهشة تمنحه الفرصة لأن يحلق بعيداً عن دنيا الواقع المملؤة بالتفاصيل الموجعة والأحداث الكثيرة المتلاحقة التى تجعله يعيش دائماً فى قلق وتوجس عاجزاً عن تحقيق أحلامه وأمانيه.. فيلجأ إلى الخيال مبتكراً لنفسه قصصاً من البطولة وعالم فريد يعيش فى رحابه ملكاً متوجاً..
فى محاولات الانسان الأولى لفهم العالم الذى يعيش فيه لجأ إلى الخيال وظهرت الأساطير المتنوعة والمختلفة باختلاف الثقافات. الأساطير صياغة جماعية لبلورة رؤية عن العالم تساعد الإنسان على فهم مظاهر الحياة المختلفة.. فهناك إله للخير.. وآخر للشر.. وإله للمطر..وهناك أيضا وحوش غاشمة شريرة مثل الغول والتنين والعنقاء إلخ. وكانت الحياة اليومية مسكونة بهذه المعجزات ففى كل ركن فى الشارع عفريت وأى حيوان قد يكون انساناً مسخوطاً..
كان الخيال العجائبى أيضا منبعا للأدب ومصدراً للمتعة والشعور بالجمال ووسيلة أيضا لسبر أغوار النفس البشرية ومدخلا لاستخلاص الدروس والعبر... ربما لهذا السبب تحديداً ذاع صيت الأدب العجائبى أو أدب الفانتازيا ولاقى نجاحاً كبيراً لدى القراء من مختلف الأعمار صغاراً وكباراً على حد سواء..الأمثلة كثيرة: رحلات أودوسيوس..حكايات ألف ليلة وليلة مثل رحلات السندباد ومصباح علاء الدين..
ومع بداية العصر الحديث، فرض العقل سلطانه،وساد التفسير العلمى للظواهر الطبيعية..انتهى زمن المعجزات الذى عاصره الإنسان البدائى الأول.ولكن مع ذلك ظل الإنسان يشعر بحنين إلى تلك الظواهر الغرائبية التى كانت تحدث فى حياته قبلاً.. فهى فى النهاية تبعث معها مشاعر وإحساسات فريدة قل أن تجدها فى خضم هذا الواقع العقلانى الرتيب والمنظم.. ما العمل إذن؟ كان الأدب العجائبى هو الملاذ.. فعبر أحداثه الغريبة المدهشة الخارجة عن سلطان العقل يمكن للمرء أن يسترد خياله الجامح ويبعث شيئاً من البهجة إلى نفسه المهمومة والمشغولة بمتاعب الحياة اليومية.. فالناس فى العادة ترفض الواقع بأحداثه الرتيبة المملة وتبحث عن المغامرة والإثارة والبهجة.. وهذه الصفات يقدمها الأدب العجائبى بامتياز.. وهكذا دخل أدب الفانتازيا وجدان الشعوب وصار لوناً محبباً إلى قلوبهم لما فيه من أحداث مثيرة شيقة..
ومال عدد من المؤلفين إلى كتابة قصص مليئة بكائنات خيالية لإضفاء أجواء سحرية بديعة وفى الوقت نفسه تقديم رسالة إلى القارئ.. دعونا نضرب مثلاً على ذلك : مغامرات أليس فى بلاد العجائب لكاتبها لويس كارول والتى صدرت عام 1865، هذه القصة الخيالية التى تجعل القارئ يعيش فى رحاب عالم عجائبى مبهج.. فتاة صغيرة تسأم من طول الجلوس بجوار أختها التى تقرأ لها قصصاً.. تشاهد أرنباً يجرى مسرعاً أمامها.. يلفت انتباهها أنه أخرج ساعة من جيبه وهرع مسرعاً يواصل سيره.. جرت أليس خلفه فرأته يدخل فى جحر فدخلت وراءه..وعبر هذا الجحر ينفتح أمامها عالما غرائبياً عجيباً حيث تنتظرها الكثير من المفاجآت والمواقف الغريبة.. نجحت الرواية نجاحاً عالمياً لا حد له.. لماذا؟ لأنها ببساطة شديدة تبعد القارئ عن واقعه الممل وتكسر حاجز المنطق الرتيب وتقدم عبر سطورها حكاية مبهجة تجعل الابتسامة لا تفارق الشفاه.. ومن روايات الأدب العجائبى التى تركت خلفها علامة مؤثرة فى عالم الأدب والمسرح والسينما قصة «فاوست» التى أعاد صياغتها الأديب الألمانى جوتة.. الرجل الذى باع نفسه للشيطان.. فى سبيل حيازة السلطة والثروة والمعرفة قدم للشيطان حياته بأكملها.. تظل شخصية فاوست بما تحمله من رموز وإسقاطات لمعان كثيرة ومشاعر تراود النفس البشرية بكل تناقضاتها وإحساساتها باقية رغم مرور ألاف السنوات..فكرة خيالية غرائبية نالت الاستحسان والانبهار.. ربما لأنها تخاطب جزءًا انتهازياً من النفس البشرية التى تحاول دوماً التظاهر بالتقوى والأخلاق.. وربما أيضاً لأنها فكرة خيالية مجنونة ليست إلا!
وكيف يمكننا أن نغفل أدب الواقعية السحرية ونحن بصدد الحديث عن الأدب العجائبى؟ هذا اللون الذى ازدهر فى أمريكا اللاتينية وتلقفه العالم بعد ذلك.. تدور أحداث روايات هذا التيار فى إطار واقعى: الشخصيات.. المكان.. البناء الدرامى.. وكل التفاصيل المختلفة التى تحيط باحداث الرواية، ثم فجأة يلجأ الكاتب إلى السحر كوسيلة لتبرير الواقع.. أو تأتى روح هائمة لتفصح عن سر طال البحث عنه.. إلخ .نذكر هنا روايتى مائة عام من العزلة للروائى الكولومبى جابريل جارسيا ماركيز والخيميائى لباولو كويلو كمثال على أدب الواقعية السحرية.. ومن منظور آخر يمكن فى عصرنا الحديث إدراج روايات الخيال العلمى كنوع من الأدب العجائبى ولكن بشروط ومواصفات خاصة.. فى هذا الصدد قدم الكاتب الفرنسى جول فيرن العديد من هذه الروايات نذكر منها: عشرون ألف فرسخ تحت الماء، ورحلة من الأرض إلى القمر.. يعيش القارئ مع سطورها فى رحاب عالم مغاير تماماً عن الواقع.. حقاً تعتمد فكرتها على عنصر خيالى لكنها فى النهاية محكومة بقوانين العلم..
فالكاتب لا يترك خياله للفانتازيا بل يقدم تفسيرات وتفاصيل علمية مقنعة.. فى رواية عشرون ألف فرسخ تحت الماء اهتم فيرن بأن يورد للقارئ تصوراً علمياً لتصميم الغواصة.. فهى مزودة بمضخات للأكسجين وفتحات بصمامات لخروج ثانى أكسيد الكربون تسمح بالتنفس.. لم يلجأ الكاتب إلى السحر أو إلى الفانتازيا بل قدم رواية تعتمد على التفسيرات والقوانين العلمية..
سوف يظل الخيال العجائبى مصدراً ثرياً للإبداع.. مصدر لا ينضب أبداً مانحاً الإنسان عالماً رحباً بلا حدود..