عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
«صداع اسكتلندا» يلاحق جونسون
12 مايو 2021
رسالة لندن منال لطفى
التوتر يشوب علاقة رئيس الوزراء البريطانى جونسون بنظيرته الاسكتلندية ستيرجين


«لقد بدأ صداع استقلال اسكتلندا.. وسيظل يلاحق حكومة بوريس جونسون بلا هوادة».. هذا هو الاستنتاج الرئيسى لنتائج الانتخابات الإقليمية والمحلية فى بريطانيا. فقد فاز الحزب القومى الأسكتلندى بزعامة نيكولا ستيرجين بـ64 مقعدا من أصل 129 مقعدا فى البرلمان الأسكتلندى ليواصل حكمه المتواصل لأسكتلندا منذ عام 2007. وعلى غرار الانتخابات الثلاثة السابقة فاز الحزب بمانفستو ينص صراحة على إجراء استفتاء شعبى آخر لاستقلال أسكتلندا عن المملكة المتحدة. نتائج الانتخابات الإقليمية والمحلية عززت قناعة مفادها أن جونسون ونيكولا ستيرجين هما أهم شخصيتين سياسيتين مهيمنتين فى البلاد فى الوقت الحالى وبيدهما مفاتيح مستقبل الاتحاد البريطاني. وبينما هناك شىء واحد يتفق عليه جونسون وستيرجين وهو أن الوقت الراهن ليس الوقت المناسب لإجراء استفتاء استقلال أسكتلندا عن المملكة المتحدة، إلا أنهما يختلفان على كل شىء بخلاف ذلك.



فمن وجهة نظر ستيرجين تعطيها نتيجة الانتخابات تفويضا لا شك فيه لإجراء استفتاء الاستقلال خلال عام 2024، على أن تعطى تركيز حكومتها كله الآن للتعافى من آثار كوفيد ــ 19 الصحية والاقتصادية. أما بالنسبة لجونسون فليس هناك «أى وقت مناسب لإجراء الاستفتاء الثاني» لاستقلال أسكتلندا عن المملكة المتحدة، لكن الوقت الراهن بالذات غير مناسب بسبب غرق البلاد فى معالجة تداعيات كوفيد ــ 19.



وفى خطوة تكتيكية لسحب الأضواء من انتصار الحزب القومى الاسكتلندي، دعا جونسون لقمة فى «داوننج ستريت» بين رؤساء وزراء أسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية لبحث خطة قومية للتعافى من الجائحة، لكن ستيرجين وصفت الدعوة بأنها خطوة تكتيكية من جونسون لدعم خطابه السياسى «أن المكونات الأربعة للمملكة المتحدة، انجلترا وويلز وأيرلندا الشمالية واسكتلندا، «أقوى عندما تعمل معا» وأن مستقبل أسكتلندا فى اطار المملكة المتحدة أفضل من مستقبلها إذا انفصلت واستقلت».



معركة دستورية تلوح فى الأفق



لم يخف جونسون حتى قبل نتائج الانتخابات نيته رفض السماح بإجراء استفتاء شعبى ثان على استقلال أسكتلندا. ووفقا للقوانين البريطانية يجب أن يوافق البرلمان المركزى فى ويستمنستر على إجراء استفتاء الاستقلال. لكن نيكولا ستيرجين تقول إنه مادام لديها تفويض من الشارع الأسكتلندي، الذى منحها 64 مقعدا فى البرلمان الأسكتلندى بمانفستو ينص على اجراء استفتاء استقلال ثان، فيجب على جونسون والحكومة المركزية فى لندن احترام التفويض الشعبى الديمقراطي، وإلا كان «ناكرا للديمقراطية» بحسب تعبير ستيرجين.



لكن إذا واصل جونسون الرفض، يمكن للحكومة الاسكتلندية ان تدعو لتصويت فى البرلمان الاسكتلندى لتمرير قانون استفتاء الاستقلال. ومن المؤكد تمرير هذا القانون من البرلمان الأسكتلندى فى ضوء دعم حزب الخضر أيضا، لديه 8 مقاعد فى برلمان أسكتلندا، للانفصال عن المملكة المتحدة.



وفى حالة تمرير البرلمان الأسكتلندى لقانون إجراء استفتاء ثان على الاستقلال، يمكن لبوريس جونسون أن يلجأ للمحكمة الدستورية العليا للتدخل فى النزاع بين لندن وأدنبرة. وهذا سيكون تصعيدا سياسيا ودستوريا بعواقب وخيمة على بريطانيا.



فمن الناحية القانونية والدستورية، قد يكون من الضرورى نيل دعم البرلمان المركزى فى ويستمنستر لإجراء استفتاء ثان على الاستقلال، لكن من الناحية السياسية لا يخلو تحدى التفويض الشعبى للحزب القومى الأسكتلندى من مخاطر على رأسها تعزيز التوجه الانفصالى فى الشارع الأسكتلندي، لأن رفض لندن السماح بإجراء استفتاء على الاستقلال يجعل أسكتلندا كأنها «مسجونة» فى سجن دستورى مفاتيحه فى لندن فى «داوننج ستريت» و«ويستمنستر» وليس فى أدنبرة.



إنها مياه موحلة تلك التى ستدخل فيها بريطانيا خلال الأشهر المقبلة عندما تبدأ فى التعافى من كوفيد ــ 19 والتركيز على القضايا الأخرى الملحة. ومن المؤكد أن يشكل استفتاء استقلال أسكتلندا صداعا فى رأس بوريس جونسون كما شكل صداعاً فى رأس رئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون، الذى اضطر لقبول اجراء استفتاء فى 2014 صوتت فيه غالبية ضئيلة لمصلحة البقاء فى المملكة المتحدة على أساس أن اسكتلندا ستخسر ممرها للاتحاد الأوروبى لو صوتت بالانفصال عن المملكة المتحدة.



لكن الواقع السياسى تغير بشكل جذرى منذ 2014، فقد خرجت بريطانيا نفسها من الاتحاد الأوروبى فى استفتاء 2016. وبات الممر الوحيد للعودة للاتحاد الأوروبى بالنسبة لكثير من الأسكتلنديين هو الخروج من الاتحاد البريطاني، خاصة أن 62% من الأسكتلنديين صوتوا لمصلحة البقاء فى التكتل الأوروبى خلال استفتاء 2016 والخروج من أوروبا «كان رغما عن إرادتهم» كما تقول ستيرجين.



حزب العمال يبحث عن نفسه



انتصار الحزب القومى الأسكتلندى عكر على جونسون الاحتفال بانتصار حزب المحافظين بقيادته فى إنجلترا، حيث واصل الحزب التمدد فى مدن شمال انجلترا التى كانت قبل سنوات قليلة معقلا حصينا لحزب العمال المعارض.



وفى المقابل، عزز حزب العمال بزعامة كير ستارمر نفوذه التاريخى فى ويلز وحقق نتائج أفضل من المتوقع وسيشكل الحكومة الويلزية المقبلة. كما فاز مرشح حزب العمال صديق خان بولاية ثانية كعمدة لندن، بالإضافة لتحقيق العمال نتائج جيدة فى المدن الكبرى مثل لندن وليفربول ومانشستر ونيوكاسل وليستر. لكن مرارة خسارة الطبقة العمالية والمدن الصغيرة شمال إنجلترا يضع حزب العمال أمام خيارات معقدة، فهو لا يستطيع الانتصار فى الانتخابات المحلية أو البرلمانية دون أن يعود بقوة لقاعدته التقليدية من الطبقة العمالية، لكن هذه العودة تستلزم من الحزب تغيير خطابه السياسى التعددى المفتوح لخطاب سياسى إنجليزى ــ قومي، مضاد للهجرة والعولمة اتساقاَ مع أجندة مشروع البريكست الذى دعمته الطبقة العمالية بقوة، انطلاقا من وضعها كل مشاكلها على شماعة العولمة والحدود المفتوحة والمهاجرين والاتحاد الأوروبي.



ولم يكن انتصار جونسون فى شمال انجلترا مفاجأة كبرى، فاستطلاعات الرأى قبل الانتخابات كانت تشير إلى أن مدن الطبقة العمالية فى انجلترا التى صوتت للبريكست فى 2016 ولحزب المحافظين فى 2019 ستصوت لجونسون وحزبه فى 2012 بسبب «وضوح» رسالة حزب المحافظين و«ضبابية» رسالة حزب العمال.



فحزب المحافظين ومرشحوه للانتخابات المحلية شددوا على أن الحزب وحده قادر على قطف ثمار البريكست لرجل الشارع البريطانى العادي، واضعين عناوين عريضة لسياسات تتضمن الحد من الهجرة واللاجئين، والاستثمار فى البنية التحتية فى مدن الشمال المنسية، والحد من الجريمة. وهى كلها سياسات تداعب خيال الطبقات العمالية منذ صوتت للبريكست وما زالت بانتظار قطف ثماره الاقتصادية. أيضا عزز موقف حزب المحافظين النجاح الكبير لبرنامج لقاحات كوفيد ــ 19 الذى جعل بريطانيا ضمن أنجح دول العالم فى تطعيم سكانها ضد الفيروس.



على النقيض لم يكن لدى حزب العمال خطاب مؤثر بالنسبة للطبقات العمالية فيما يتعلق بالهجرة، أو اللاجئين، أو تطبيق البريكست، والعلاقة المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن لا يزال حزب العمال غير قادر على تحديد كيف سيجعل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ناجحا. وعلى الرغم من أن الحزب صوت فى البرلمان لمصلحة صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإنه يتعامل مع البريكست وتداعياته كـ «أمر واقع يجب التعامل معه»، بينما يعتبر حزب المحافظين البريكست «فرصة» و«مكسبا» يجب الاحتفاء به.



هذا التباين والتناقض ليس من السهل التغلب عليه. فحزب العمال لا يستطيع المغامرة بتبنى خطاب انجليزى - قومى ضد الهجرة والحدود المفتوحة واللاجئين والاتحاد الأوروبى، لأن هذا سيعنى خسارة قواعده الليبرالية المنفتحة فى المدن الكبرى مثل لندن وليفربول ومانشستر، وبالتالى وقع الحزب مجددا فريسة تناقضات هيكلية تتعزز منذ سنوات وهى زيادة شعبيته وسط الشباب، وسكان المدن الكوزموبوليتينة، ومؤيدى يسار الوسط، بينما تتراجع شعبيته وسط الطبقات العمالية والمدن والضواحى الصغيرة.



ويمكن رؤية ذلك التناقض فى الانتصار الكبير لحزب المحافظين فى مدينة هارتلبول، وهى مدينة ساحلية فقيرة فى شمال شرق إنجلترا بها أعلى نسبة بطالة فى البلاد. فقد خسر العمال هذه المدينة لأول مرة منذ عقود وبات الآن يمثلها نائب عن حزب المحافظين، حزب رجال المال والأعمال والاستثمارات.



خريطة سياسة متقلبة



نتيجة هارتلبول تمثل أولى ثمار إستراتيجية بوريس جونسون السياسية الناجحة جدا حتى الآن، والتى تقوم على بناء صورة وخطاب جديد لحزب المحافظين- انطلاقا من مشروع البريكست ــ بوصفه حزب الطبقة العمالية الإنجليزية والمدن المحرومة في«الحزام الصدى» الذى يفهم مشاغلها وهمومها، والذى سينفق المليارات عليها لإعادة تأهيل البنية التحتية وخلق الوظائف لسكانها المنسيين. وبالتالى هناك دعوات متزايدة وسط اليسار البريطانى كى يتحرك كير ستارمر سريعا لتغيير خطاب حزب العمال الموجه للطبقة العمالية الإنجليزية. وفى نظر كثيرين يحتاج ستارمر مفردات جديدة لإقناع الطبقة العاملة التقليدية بأن حزب العمال يمثل مصالحهم ويتفهم مخاوفهم، فدون هذه الطبقة القوية فى إنجلترا لا يمكن أن يأمل ستارمر فى بناء تحالف انتخابى واسع بما يكفى للفوز بالسلطة. طبعا لا تتوقف مشاكل حزب العمال على خسارة معاقله فى شمال إنجلترا. فرغم انتصاره الكبير فى ويلز وليفربول ومانشستر، واصل الحزب خساره مقاعد فى اسكتلندا لمصلحة حزبى القومى الأسكتلندى والخضر.



الصورة المختلطة لنتائج الانتخابات، دعت كير ستارمر للدعوة لإجراء مراجعة لسياسات الحزب، كما قام بفصل نائبة رئيس الحزب انجيلا رانير، المحسوبة على الجناح اليسارى للحزب والمقربة من الزعيم السابق للحزب جيرمى كوربن، ما يهدد بإعادة فتح الحرب الأهلية داخل حزب العمال بين جناحى يسار الوسط وأقصى اليسار.



إذا تغلق بريطانيا صفحة الانتخابات الإقليمية والمحلية بنتائج ذات تأثير مزلزل بالنسبة لمستقبلها ومازال من المبكر التنبؤ بكل تداعياتها، لكن المؤكد أن حزب العمال سيحتاج لإعادة تعريف لنفسه وأجندته وسياساته وهويته بعد تواصل نزيفه فى مدن «الحزام الصدى» ووسط الطبقة العمالية، قاعدته التاريخية.



أما حزب المحافظين وبوريس جونسون فيحتاجون إلى تطبيق السياسات الطموح التى وعدت المدن المنسية والمحرومة فى الشمال بإعادة الاستثمارات وخلق وظائف وتحسين مستويات الحياة، لأنه لو أخفق المحافظون فى تحقيق وعودهم الانتخابية فإن انتصاراتهم فى المعاقل التاريخية لحزب العمال لن تطول.



أما الحزب القومى الأسكتلندى فانتصاراته فى الانتخابات تضعه ومعه الحكومة البريطانية أمام معركة سياسية ودستورية كبيرة لإجراء استفتاء ثان على استقلال أسكتلندا عن المملكة المتحدة. وهذه هى النتيجة الأكثر خطورة وسط كل نتائج الانتخابات فى بريطانيا لأنها تفتح الباب أمام تفكك محتمل للاتحاد البريطاني.