ها هى أنوار ليلة القدر تُشرق في عيوننا، وتجعلنا نمد خط الرؤية على استقامته، فنُبصر أبعد مما نرى.. إنها تجعل الإنسان خالي الوفاض إلا من وفاض التواصل المباشر مع الخالق سبحانه وتعالى عندما تسمو الروح، وتتجلى إشراقات في النفوس للوصول إلى معرفة الحق الذي جاء بنزول القرآن في هذه الليلة «ثرية البركات»، وتكشف الحسنات والسيئات من خلال مساحات وفضاءات هائلة تغمر الكون، كما قال شوقى:
وَحَـديـقَـةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا
بِـالـتُـرجُـمـانِ شَـذِيَّةٌ غَنّاءُ
إن القرآن الكريم منحة إلهية تصب في نهاية المطاف في مصلحة الإنسان، فيضئ بنوره الوعي الداخلي له، ويفسح المجال لتدفق الطاقات بأنواعها، والتي تعمل على حمايته وشد أزره كسلاحٍ يقضي به على عوامل التخلف، ولتوحيد الصفوف ودفع البشرية إلى الأمام باحتوائه تنوعاً شديداً من حيث الموضوعات يكاد يضمها معنى واحد ويحركها هدفٌ واحد وهو الدفاع عن الإنسان عندما يعمل على تمكينه من عمارة دنياه وتحقيق سعادته بإبراز دوائر التكليف ودوائر العقوبات، وذلك بما يتضمنه من حدودٍ وربطها بالخالق سبحانه تعظيماً لها ولحمايتها من العبث، وهوى النفوس، فتهدي الناس إلى عالم يقوم الإخاء فيه مكان التميز، والحب مكان الكراهية، والتناصر مكان التربص، فكان كأنما عينه على حركة الإنسان لا يكاد يرى عثرةً إلا بادرها بالهدى، ولا ظُلمة إلا بادرها بالضياء في توليفة متناسقة تضع الأمور في نصابها كحارس ساهر ورقيبٌ أمين .. فما أحوجنا إلى اكتشاف المعجزات العظمى التي حققها القرآن الكريم للحضارة الإنسانية من أرصدة لا تفنى من علم وقيم وغذاء للوجدان، ونجعل أصداءها تُسمع في ضمائرنا ومسلكنا الشخصي، فتُطهرنا من أخطائنا المتراكمة كفرصة سانحة للمراجعة والمحاسبة، ومن ثمّ نتحرر من همومنا وأثقالنا، ويحدونا الأمل – في هذه الليلة – أن يمحو ولي العفو سبحانه بناصعٍ من الصفح، ما سودناه من صفحات، ويشفع لنا أن قلوبنا لم تعش إلا لحمد علاه في الأكوان، ولا نُشرك في وحدانيته أحدا.
عبدالحى الحلاوى