عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
عروبة العراق
4 مايو 2021
د. مصطفى الفقى


إن بلاد ما بين النهرين ـــ عراق الرافدين ـــ قد التقت على أرضه حضارات عريقة اختتمت وجودها بالحضارة العربية الإسلامية فى أزهى عصورها، والعراق بلد حباه الله من كل ما يريد، وفرة فى الماء، فائضا فى النفط، تربة خصبة، كوادر بشرية مدربة لذلك فقد كان من المتعين أن يكون العراق قاطرة للتقدم ومنصة للتنمية، ولكن ذلك البلد الذى يمثل ركنًا ركينًا فى المنظومة العربية ودولة متألقة فى غرب آسيا قد واجه من التحديات ما لا أظن أن شعبًا آخر قد عرف مثلها وتوالت عليه الأحداث العنيفة منذ سنوات طويلة، وتكمن أهمية العراق فى أنه وريث لدول تعاقبت على أرضه وحضارات امتزجت بتربته ولكنه لم يسلم من الذين غامروا به فجنى عليه الحكم الفردى ودفع الشعب العراقى ثمنًا غاليًا للضغوط الخارجية والأحداث الداخلية وسقط النظام الملكى عام 1958، وتوافد على العراق حكام لم يدركوا قيمته ولم يعرفوا تفرده الواضح بسبيكة ثقافية لا يملك غيره مثلها، والذى يدفعنى إلى الكتابة عن العراق الآن هو شعورى بأن ذلك القطر العربى الكبير قد تعرض فى السنوات الأخيرة لمحاولات طمس هويته وتحجيم عروبته بعد معاناة طويلة فى تناوب مستمر بين الحصار الاقتصادى والحروب الدامية حتى أن ميزان القوى العربى قد تأثر فى إطار الإقليم كله تأثرًا سلبيًا بغياب العراق فى كثير من المواقف التى كان حضوره فيها مطلبًا أساسيًا، لقد امتلك العراق تاريخيًا مقومات جرى تبديد بعضها مع غياب الوعى الحقيقى بقيمتها، ولقد سعدت بأن بغداد قد فتحت أبوابها فى السنوات الأخيرة أمام أشقائها العرب وأصدقائها من دول العالم لكى تستعيد دورها الكبير ومكانتها المستحقة، ولقد قرأت عن زيارة أمين عام الجامعة العربية بغداد وزيارات أخرى من الدول العربية والإسلامية بل والإفريقية والآسيوية إلى جانب دول أوروبية تسعى لتأكيد دور لها، فالعراق الذى عانى كثيرًا قد جاء الوقت لكى يحصد نتاج معاناته وعائد تضحياته، ويهمنى هنا أن أسجل بعض الملاحظات:



أولًا: إن دور العراق فى المنظومة العربية يجب أن يقوى وأن يتزايد وأن يكبر لأن العراق ليس رقمًا عاديًا فى الإطار العربى ولكنه كيان يحمل على كاهله التراث الضخم للدولة الإسلامية فى قرون تألقها، ولقد ازدهرت الفنون والآداب والأشعار والأذكار فى بلاط الخلافة العباسى فضلًا عن تميز الغناء العراقى ومقاماته من الموصل إلى البصرة مرورًا ببغداد، إنها أرض التعايش المشترك بين الديانات والطوائف والمذاهب، إنها بلد المدرسة المستنصرية، ولن أنسى أبدًا تجوالى فى بغداد فى أثناء إحدى الزيارات بين الكاظمية والأعظمية وأنا أرى التاريخ شاخصًا أمامى وأشعر بعبق المزيج الضخم من حضارات الدنيا التى مرت على أرض العراق.



ثانيًا: إن العراق يملك كوادر فنية فى كل التخصصات تجعله متألقًا وسط دول المنطقة، فقد امتلك لفترات طويلة جيشًا قويًا وسلاحًا للطيران متميزًا وفاعلًا، وعلماؤه منتشرون فى أنحاء الدنيا وشعراؤه يتغنون بالأمجاد ويشحذون الهمم ويحركون المشاعر، إن ذلك العراق الذى عرفناه دائمًا يعود الآن إلى أمته ركيزة ودعمًا وقوة خصوصًا بعد أن تمكن جيشه الباسل من ضرب فلول الإرهاب التى تحاول أن تطل برأسها من جديد على الأرض التى قاومت عبر التاريخ كل الغزوات العسكرية والنزوات السياسية واحتفظت دائمًا باستقلالها وكبرياء شعبها، ولا أريد لأحد أن يحدثنى عن عرب وكرد أو شيعة وسنة فالتعايش المشترك على المستوى الشعبى كان دائمًا راسخًا وأصيلًا ولكن بريطانيا زرعت الفتنة ذات يوم بالتقرب إلى (سنة العراق) عام 1920، وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية لتمضى فى الاتجاه الآخر عام 2003، وفى الحالتين لا يمكن تمزيق وحدة الشعب العراقى أو النيل من الدماء المشتركة بين طوائفه المختلفة، فالحضارة العربية الإسلامية كانت نتيجة لجهود العراقيين بلا تفرقة بسبب دين أو مذهب أو تمييز بسبب عرق أو جنس.



ثالثًا: إن الأطماع التى تحيط بالعراق هى أمر متوقع، فالبلد الذى حباه الله من الخيرات وفرة كافية كان دائمًا مطمعًا وهدفًا للقوى الاستعمارية ولقد فرض ذلك على العراق الدخول فى سلسلة طويلة من المواجهات فى كل مراحل تاريخه، إنه عراق الحجاج بن يوسف الثقفى وهو أيضًا عراق صدام حسين التكريتي، وما من مفكر أو عالم أو موسوعى إلا وعاش فى العراق أو مر بأرضه لذلك تميز شعراؤه وتألق فنانوه وبرز جيشه العربى مقاتلًا عنيدًا دون تفرقة بين أبنائه، ويكفى أن نتذكر أن الناصر صلاح الدين كردى وأن العلاقة بين الأكراد والعرب هى امتزاج تاريخى طويل يصعب فيه الإشادة بطرف دون الآخر بل إن رئيس العراق الحالى هو شخصية كردية وعروبية فى ذات الوقت، ومازلت أتذكر علاقتى الطويلة بالرئيس الراحل جلال طالبانى الذى كان يحفظ الأشعار العربية على نحو ليس له مثيل ويستحيل أن تفرق إن كان عربيًا أو كرديًا وقد كان نصيرًا لكل القضايا العراقية والعربية والإسلامية.



إن غياب العراق ـــ مرحليًا ـــ قد جعلنا نشعر بالدور الكبير الذى يلعبه فى العمل العربى المشترك، وندعوه إلى أن يستأنف دوره الذى لم يتوقف أبدًا رغم الظروف المعقدة والتحديات الصعبة التى عرفها فى السنوات الأخيرة مدركين أن عروبة العراق هى أمر يعتز به ذلك القطر المتألق وتفخر به كل طوائفه دون تفرقة أو تمييز.