عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
تقاليد رمضان النبيلة تنبذ التطرف
30 أبريل 2021
بقلم ــ عـــلاء ثابت


شهر رمضان له مذاق خاص فى مصر، فلا توجد حارة إلا وقد تهيأت لاستقبال الشهر الكريم، وبتلقائية شديدة ونظام تتوزع الأدوار على تزيين الشوارع، بأوراق ملونة وآيات قرآنية ومصابيح كهربائية، وتتبارى المنازل والحارات فى سباق على أجمل زينة، ويتنافس الشباب فى إبداع الجديد، فوانيس يدوية من كل الأنواع الورقية والخشبية والمعدنية، وتبرعات من كل شقة لتزيين الحارة أو الشارع كل حسب استطاعته، ومع الزينات المبهرة تظهر محال بيع المشروبات والحلوى المميزة لشهر رمضان من كنافة وقطايف إلى أنواع البلح والمكسرات، ومشروبات التمر الهندى والخروب وقمر الدين والسوبيا والمخللات، إلى أنواع الطعام الخاصة بالسحور وعلى رأسها الزبادى، فيصبح شهر رمضان حالة روحية واحتفالية جماعية اعتاد عليها المصريون من أزمنة قديمة تطورت مع الوقت، وانتقلت من مصر إلى الكثير من البلدان العربية والإسلامية.



لكن أكثر ما ميز العادات المصرية قبل جائحة كورونا هى موائد الرحمن التى لا تخلو منها منطقة، فكل قادر يقيم عددا من الموائد تمتد أحيانا بطول الشارع، وتقدم أصنافا من الطعام والمشروبات أهمها اللحوم والدجاج، وهناك متطوعون للطبخ وآخرون لتقديم الوجبات، لا يتناولون طعامهم إلا بعد أن يفرغ الصائمون من أكل وجباتهم، ورغم الجائحة ما زالت الطرق تنتشر عليها مجموعات من الشباب تقدم وجبات جاهزة لأصحاب السيارات الذين لم يسعفهم الوقت للوصول إلى بيوتهم وقت الإفطار، وتتنوع بين التمور والعصائر إلى أنواع من البسكويت والساندويتشات، ولا يسمحون بأن تمر سيارة دون أخذ نصيبها مما أحضروه من مأكولات خفيفة تعين الصائمين حتى يعودوا إلى بيوتهم.



هذه المشاهد التى تعبر عن المحبة والتقدير والاحتفال بشهر الصوم ينبثق جمالها من الروح الجماعية التى تجسد التلاحم والتراحم الاجتماعى، ولم يؤثر دخول الجمعيات الخيرية الكبيرة على المبادرات الشخصية والتلقائية لعموم المصريين، بل تكاملت معا لجعل شهر رمضان رمزا للمحبة والتكافل.



لقد شاهدنا السيدة البسيطة «هنية» وهى تحمل ما استطاعت من طعام لتقدمه إلى مصابى حادث قطار طوخ والشباب المتطوع وأسر المنكوبين، وإلى رجال الإنقاذ وقد جسدت هنية روح المرأة المصرية العامر قلبها بالحب والتآخى، وقبلها شاهدنا طوابير المتبرعين بالدم لضحايا قطار سوهاج، حتى إن بنوك الدم قد امتلأت، ولم تعد قادرة على استقبال المزيد من المتبرعين لإنقاذ أشخاص لا يعرفونهم، لكنهم أمضوا ساعات واقفين فى طوابير طويلة، وكلهم إصرار على تقديم دمائهم، ورأوا أن ما يفعلونه أقل واجب يمكنهم تقديمه، وكانت السيارات تنقل المتبرعين مجانا، والمساجد تدعو إلى مشاركة رجال الإنقاذ لإغاثة الضحايا، وعدم انتظار سيارات الإسعاف.



هذه المشاهد راسخة فى وجدان المصريين منذ آلاف السنين، فقد اعتادوا على مواجهة المخاطر معا، والفرد يذوب فى الجماعة، ويرى فى الضحية الذى لا يعرفه شقيقه أو أحد أقاربه، أيا كانت ديانته، فالجميع سواء، ويجمعهم الفرح مثلما تجمعهم الملمات.






وفى زمن تفشى جائحة كورونا شاهدنا المبادرات الجماعية، التى لا تنتظر أن تتولى الدولة كل شيء، وأنشأ شباب مواقع لإنقاذ ضحايا الجائحة، منهم من يجمع ويتبرع بالأدوية وأنابيب الأكسجين، ومنهم من ينقل المرضى أو يوزع الكمامات والمطهرات، ومنهم من يقدم النصائح الطبية من المتخصصين، أو يذهب لمتابعة مريض لا يعرفه ولا ينتظر منه أجرا، وهذا يعود لأوقات الفيضان العالية، التى لم يكن بمقدور الدولة المصرية وحدها أن تواجه مخاطرها، فعندما كانت تأتى الفيضانات المرتفعة والخطيرة كانت تعزل المدن والقرى، وكان على كل تجمع أن يتكاتف لمواجهة الخطر الجماعى، فينقلونا سكان المناطق المنخفضة، أو يملأونا الأكياس بالرمال والأتربة لتصبح متاريس تمنع تدفق المياه، وهناك من ينقذون المحتجزين، وهكذا انصهرت الشخصية المصرية.



وإذا كنا نعانى من بعض الظواهر السلبية، وعدم اكتراث البعض فإنه الاستثناء والطارئ والعابر الذى لا يصمد أمام جوهر الشخصية المصرية التى ترسخت فيها التقاليد الجماعية، والعطاء، ويظهر ذلك جليا فى التبرعات للمستشفيات الخيرية، التى تتلقى مئات الملايين من التبرعات، ليست من الأغنياء فقط، بل إن أغلب التبرعات تأتى من المناطق الفقيرة، بل هناك صبية وأطفال يصممون على التبرع بمدخراتهم القليلة للمستشفيات، فهم يشعرون بآلام غيرهم، ويفعلون ذلك سرا وبمحض إرادتهم، وكنت أتمنى أن تشارك القنوات الفضائية بتقديم الإعلانات الخيرية مجانا أو بمقابل رمزى مشاركة منها فى العمل الخيرى، وعدم احتسابه ضمن الإعلانات التجارية، مثلما يتبرع القائمون على البناء والعلاج بجزء كبير من أجورهم لتبدو الصورة مكتملة البهاء والتعبير عن الروح الجماعية الخيرة، وبالفعل بادرت بعض القنوات والكثير من النجوم بالمشاركة فى جمع التبرعات دون تقاضى أى أجر، لكن هناك مستشفيات صغيرة فى المدن والقرى بحاجة لمن يدعمها، ولا تجد من يدعو لتقديم التبرعات لها، مع أنها الأكثر احتياجا، وتقدم الخدمات للفئات الأكثر فقرا وعزلة، ولهذا علينا أن نقدم قوائم بتلك المستشفيات التى تقدم علاجا مجانيا أو بأجور رمزية لتقدم خدماتها لأوسع الشرائح دون استثناء.



إن شهر رمضان يكشف جوهر الشخصية المصرية، وينفض عنها الغبار والأتربة التى جاء بها التطرف وجماعات التكفير والعنف، واختراق عاداتنا وتقاليدنا الراقية والراسخة، التى ترفع من شأن التعاطف والتآخى والحب والعطاء والروح الجماعية، وهذا ما نحتاج إليه فى ظل التحديات التى نواجهها الآن، سواء بسبب موجات جائحة كورونا أو المخاطر التى تهدد شريان الحياة «نهر النيل» أو الإرهاب الوافد الذى يستهدف تدمير روحنا الجماعية، وإشاعة الفرقة والكراهية، ليدمرنا من الداخل، مثلما يتربص بنا من لا يريد أن تتبوأ مصر مكانتها، وتصبح مركزا لنهضة شاملة تقوم على أرقى مبادئ الإنسانية، وأن تجعل من العلم والعمل والحب والتسامح والتكافل أسس بناء حضارة راقية تشع بالنور والخير لجميع البلدان المحيطة.