عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
زهرة الفول
30 أبريل 2021
خليل الجيزاوى;


فى ضُحَى يوم شتوى بارد، أجلسُ بجوار أُمّى نلتمسُ دفء شمس الشتاء الخجولة خلف دارنا، عن يميننا ساحة الجرن الواسعة المملوءة بحزم حطب الذرة الناشفة، على شكل هرم كبير، وعن يسارنا الترعة الكبيرة التى يفتح عليها باب بيتنا، كنتُ أعرفُ طلوع النهار وأنا نائمٌ من ضجيج نشيد البط والاوز، أُمّى تُربّى ثلاثة أجيال بأعمار مُختلفة، وتُطلقُ سراحهم من سجن الليل أول ما يُشقشقُ نور سماء الله، وقبل طلوع الشمس، تكون أُمّى ختمت الدعاء والتسبيح وقراءة الوتر، تطبق سجادة الصلاة، ثم تفتحُ باب غرفة الخزين وتدخلها، فتتسابق أسراب البط والإوز، فى نشيد الصباح: كاك كاك كاك.



تفتح أُمّى باب الوسط، ثم باب الدار الكبير المُطّل على الترعة، فيتسابقون نحو مياه الترعة، وتقفزُ مجموعة البط، ووراءهم تقفزُ مجموعة الإوز، كأنهم أولاد صغار يفرحون بالنزول فى مياه بحر الإسكندرية خلال إجازة شهر الصيف.



تتقافزُ مجموعات البط والاوز فيضربون وجه المياه بحركات بهلوانية صاخبة أكثر من نصف ساعة، كأنهم كانوا محرومين نزول المياه منذ زمن، رغم انه الليل فقط الذى ابعدهم عن مياه الترعة.



تفتح أُمّى باب عشة الفراخ، وفى يدها علبة صفيح كبيرة بها القليل من التبن، تجمعُ البيضَ بيدها وتضعه بهدوء داخل علبة الصفيح، تقفُ أُمّى خلف باب الوسط، وهو بابٌ صغيرٌ يحجزُ بين نصف الدار الخلفى المُخصص للجاموستين والبقرة، والعجول الصغيرة، وفرن الخبيز، وقاعة خزين الدار المملوءة بعشش الفراخ والبط والاوز، وبين نصف الدار الأمامى المُخصص لنا، تجمعُ أُمّى البيضَ، ثم تقفُ خلف الباب، وفى يدها صينية كبيرة مملوءة بما تبقى من طبيخ الأمس، وبعض أرغفة الخبز، تقومُ بمزج هذا الخليط بالصينية الكبيرة وتضعه أمام الفراخ، تأكلُ حتى تشبعَ، ثم تخرجُ للعب أمام الدار أو فى ساحة الجرن، ويومًا بعد يومٍ تُلاحظُ أُمّى غيابَ دجاجة من دجاجاتها المُميزات، ويظلُّ حديث أُمّى يتواصلُ لا ينقطع ثلاثة أيام عن اختفاء الدجاجة، تقفُ أمام باب الدار وتشرحُ:



يا أولاد لونها مثل زهرة نوّار الفول خليطًا من اللون البنفسجى والأبيض الثلجيّ.



وأُمّى تحفظُ عدد دجاجها وبطها واوزها، تمامًا كما تحفظُ عدد أولادها، ولم تسكتْ بل تسألُ عنها الجارات الطيّبات، تقولُ أُمّى ضاحكةً وهى تُخفى فمها بطرف طرحتها: قد يكون أحد الديوك عندكم غواها، وذهبت خلفه قليلة الأدب.



تضحكُ على العشاء وتراجعُ نفسها: لا..لا دجاجتى بنت ناس مُؤدبة ومُتربية على الغالى، لقد ربيّتها وعلّمتها وأحسنت تربيتها وتعليمها، نعم كانت تخرجُ على راحتها، لكن الدجاج المُتربى مع البط والإوز لا بد أن يعودَ للدار قبل المغرب.



تتدخلُ أختى فى الحديث قائلةً: أكثر من أسبوعين عينى لم ترها يا أُمّى!



وتضيفُ مُتسائلةً: هل تتذكرى يا أُمّى آخر مرة عينيك شافتها كان من كم يوم، أو من كم أسبوع؟!



تضربُ أُمّى كفًا بكفٍ قائلةً: صح يا بنتى، منذ ثلاثة أسابيع وعينى لم ترها تأكلُ مع أخواتها.



تقعد أُمّى على عتبة الدار حزينةً، تُعاتبُ نفسها قائلةً:



طالما الأمر كذلك، إذن لقد أصابها مكروه، وقد يكون الثعلبُ هجم عليها، ونحن مشغولون بيوم الخبيز.



ثم تتذكر أُمّى قائلة:



نعم تذكرت كانت تبيضُ، وفجأة تختفى ويختفى بيضُهَا، نعم أعرفُ بيضتها الكبيرة الحمراء، من وسط ألف بيضة.



وفجأة ترى الديك الأحمر العالى والكبير يقفُ قريبًا منها، كأنه جاء ليسمعَ كلامها، تمدُّ أُمّى يدها وتجمعُ ثلاث حصوات صغيرات، وتضربُ الديك وهى تضحكُ: وأنت يا ديك البرابر، مش عارف إحدى زوجاتك راحت فين؟!



كانت أُمّى لا تزال تقعدُ خلف دارنا، تقلّبُ الموضوع برأسِهَا قائلةً: لو كان الثعلبُ هجم عليها، كُنَّا رأينا بعض ريشها! ولو كانت ماتت بالليل فى العشة كُنَّا رأينا جثتها، ولو ماتت بالنهار كُنَّا رأيناها.



وأجلسُ بجوار أُمّى نلتمسُ دفء شمس الشتاء، تمسكُ أُمّى عودًا صغيرًا من حطب القطن، تنكشُ به الأرض، كأنها ترسمُ خطةً جديدةً للبحثِ عن دجاجتها الغائبة، وكنتُ أرفعُ رأسى يَمنيًا ويَسارًا؛ لأرقبَ الشمس مُستمتعًا بالدفء الذى تُوزعُهُ فى الضُحَى، بعد ليلة شتوية باردة، وفجأة رأيتُهَا تخرجُ من وسط هرم حطب الذرة الناشفة الطويلة، نعم زهرة نوّار الفول، بلونها وشكلها كما وصفتها أُمّى بالضبط طيلة ثلاثة أيام، رأيتها تخرجُ من حطب الذرة يتبعُهَا أكثر من عشرين كتكوتًا صغيرًا، أقفزُ فرحًا ويدى تغمزُ كتفَ أُمّى قائلا:



أُمّى، أُمّى انظرى هناك، ناحية حطب الذرة.



نظرة واحدة، وتقفزُ ناحيتها مُهللةً، تفتحُ يديها كأنها تريدُ أن تحتضنَ ابنتها التى رجعت بعد سفر طويل، قائلة:



حبيبتى يا أصيلة، والله متربية يا غالية.



تقعدُ أُمّى أمامها؛ لتجمعَ الكتاكيت الصغيرة فى حجرها فرحةً ضاحكةً: يا حبايبى يا أحفادى وقُرّة عينى.



وترجعُ أُمّى لتجلسَ وسط الدار، وبهدوء تفتحُ حجرها، وتندفعُ الكتاكيت، وكانت الدجاجةُ الأم تسيرُ خلف أُمّى، ثم تتوقفُ أمامها، وتفتحُ جناحيها الكبيرين، تريدُ أن تحتضنَ صغارَهَا، وتنقرُ بمنقارها الأرض، كأنها تبحثُ عن طعامٍ لأولادها الصغار، تفهمُ أُمّى وسريعًا تتوجه ناحية غرفة الخزين، وتعودُ لوسط الدار وفى يدها صينية كبيرة، تبثُّ بعض الدقيق الأبيض بالماء؛ حتى يصيرَ مُفلفلا مثل الكسكسى، وتضعُ الصينية أمام الدجاجة الأم مُبتسمةً: أكلى أولادك يا غالية يا أصيلة.



وتظلُّ أُمّى ثلاثَ ليالٍ تقصُّ وتسردُ، كيف كانت تبيضُ الدجاجة فى هرم حطب الذرة الناشفة وسط ساحة الجرن، وكيف كانت تنامُ على بيضِهَا واحد وعشرين يومًا، حتى يفقسَ البيضُ كله، وكيف كانت تُحافظُ على بيضِهَا، وتحرسُ أفراخَهَا الصغار، ولم تخرجْ إلا وهى تشعرُ بالجوع وتحتاجُ الطعامَ لأولادِهَا.



ثم تهزُّ رأسَهَا قائلةً: الأصيل أصيل يا أولاد، حتى الكلب تُربيّه وتُطعمُهُ، لمّا يشوفك يَهزُّ ذيلَهُ مُرحبًا، وعُمْرُهُ ما يَعُضُّك أبدًا!