عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الوسطية.. «ميراث» مع إيقاف التنفيذ
23 أبريل 2021
تحقيق ــ عــــلا عـــامـر هند مصطفى عبدالغنى


د. أحمد عمر هاشم: الغلو في الصيام والقيام منهى عنه



د. محمود الصاوى: الإسلام لم ينكر الفطرة أو يتجاهل "الغرائز"



 



لم نبذل جهدا كى نكون مسلمين، فلم نُحارب فى عقيدتنا، ولم نهاجر بدعوتنا، أو نضطر لأن نكتم عمن حولنا إيماننا، فليس أقل من أن نبذل جهدا لفهم هذا الدين، كى نصبح واعين لا نصدق كلمة يرميها أحدهم فى آذاننا، أو «رسوما» سخيفة تجسد رسولنا بزعم الحريات الزائفة، أو تهمة «تشدد» يحاول أحدهم إلصاقها باسلامنا، فلو ذاكرنا جيدا القرآن الكريم والسنة المطهرة، لاكتشفنا أننا ورثنا «وسطية» مبهرة تتدفق حكاياتها وأحكامها من كل الجوانب: فقه وشريعة وعبادة ومعاملات، إذا لم نجد لها بعد كل هذا ظلا حقيقيا فى حياتنا، فمن المؤكد أن العيب فينا، إما لأننا لم نفهم ــ سهوا أو عمدا ــ أو لأننا لم نترجم تلك «النصوص» بعد إلى واقع ملموس.



 



 ربما يظن البعض أن العبادات لا حد أقصى لها، وأنه كلما ضاعفنا صلواتنا وصيامنا كانت درجة «إسلامنا» أفضل من غيرنا، لكن الحقيقة أن الغلو فى العبادة لم يحبذه النبى صلى الله عليه وسلم أبدا، بل دعانا إلى الترفق بأنفسنا: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله»..



حيث إن إرهاق النفس ولو فى طلب العبادة لا يرضاه الإسلام، لأن فيه مشقة فوق المعتاد، قد تحول دون الاستمرار عليها وهو الهدف الأهم للشريعة، وبدلا من الغلو والمبالغة بين النبى المنهج المطلوب: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».



الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء يقول: بما أن الله جعلها «أمة وسطا» فكذلك العبادات المفروضة عليها تتسم بالوسطية والاعتدال، وأن الله حين شرع العبادات لم يشرع شيئا فيه حرج أو مشقة على الإنسان، ولم يكلفه إلا ما يستطيع الاستمرار على أدائه، وسواء كانت العبادات الإسلامية واجبة أو مستحبة، فكلها تتسم بالوسطية والاعتدال، وتعتبر بعيدة كل البعد عن الغلو، موضحا أن هناك عبادات يومية، كالصلاة المفروضة يؤديها المسلم كل يوم تقربا إلى الله تعالى، لا تأخذ من المسلم إلا وقتا يسيرا، فلا تؤثر على سعيه فى عمارة الأرض وإنما تبقيه على صلة بمولاه جل فى علاه، فيبارك له فى عمله وسعيه، ومن لا يستطع أن يؤديها واقفا فليؤدها جالسا أو مضطجعا أو ليمررها على قلبه حسب حاله وقدرته، قال تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».



وهناك عبادة يؤديها المسلم كل أسبوع مرة واحدة، وهى صلاة الجمعة، يجتمع المسلمون فيها، لاستماع الموعظة، وتحقيق التقارب بين المسلمين، وهى أيضا لا تأخذ من وقت المسلم إلا اليسير، وهى عبادة يسبقها بيع وعمل للدنيا، ثم سعى إلى ذكر الله وإلى الصلاة، وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشار فى الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله‫.‬



ويضيف دكتور هاشم أن من العبادات التى فرضها الله تعالى على عباده المسلمين، صوم رمضان وهى تُؤدَّى فى العام مرة واحدة، وليس فيها منع عن الطعام أو الشراب عدة أيام مثلا، بل صيام من الفجر حتى غروب الشمس، وهى عبادة مطلوبة من القادرين عليها فقط، فلا تجب على المسلم المريض مرضا مزمنا، ولا على العاجز، ولا على المسافر، والمريض جعل عليه الفدية أو القضاء حسب حاله، والهدف النهائى هو التيسير على المسلمين، قال تعالى: «..وَمَن كَانَ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وكذلك الحج فهو فريضة مطلوب تأديتها فى العمر مرة واحدة، ولا تجب على كل مسلم، بل المستطيع فقط بدنية ومالية وأَمنيّة ومن أبرز مواقف رفض النبى للغلو فى العبادة، حتى لو كان المسلم مستطيعا لها، حواره مع عبدالله بن عمرو بن العاص، عندما سمع بأنه يقول: لأقومن الليل ولأصومن النهار ماعشت، حيث حاول النبى ثنيه عن تنفيذ مقولته، قائلا: «فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر»، وظل الحوار مستمرا مابين اصرار عبدالله على الصوم المتواصل، ومابين عروض النبى للتخفيف حتى وصل به إلى عرض أن يصم يوما ويفطريوما، ورفض صلى الله عليه وسلم أن يُزيد عبدالله عن ذلك، ومما ذكره النووى: أنه ندم على ذلك بعد كبره، وقال: ليتنى أخذت برخصة النبى، يقصد النصيحة الأولى بصيام ثلاثة أيام.



وقد أقر النبى قول سلمان الفارسى لأبى الدرداء، لإفراطه فى التعبد: إن لبدنك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذى حق حقه، كما نهى النبى عن الصلاة والنعاس والتعب يغلبان الإنسان، فعندما شاهد حبلاً بين ساريتين بالمسجد، ولما علم أنه لزينب لتتعلق به إذا فترت فقال: إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم وقال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» ومعنى شيء من الدلجة: أى قدر من قيام الليل وليس الليل كله.



و يوضح د. هاشم، أن الوسطية متحققة أيضا فى عبادات أخرى، لا يقتصر تأثيرها على القائم بها وحده مثل الزكاة بأنواعها، وفيها يراعى الطرفان: الإنسان الغنى الذى سيدفع الزكاة، والفقير الذى يأخذها، فإذا كانت مثلا الأرض التى سيخرج صاحب المال زكاتها تسقى بآلة وفيها مشقة يراعى أن يكون مقدارالزكاة أقل، عما إذا كانت تسقى بدون تعب أو مشقة، كأن تكون تروى بمياه الأمطار.



كما أن الوسطية تأتى بمعنى آخر وهو: اليسر وتعدد البدائل، فعندما يفتقد الإنسان الماء فى الوضوء فهناك التيمم وعندما يكون مسافرا يمكنه أن يُقصر من الصلاة، وإذا ارتكب إثما أو معصية فليس مطلوبا من الإنسان أن يقتل نفسه، وإنما يمكنه أن يحقق التوبة بشروطها من رد للمظالم والندم والعزم على عدم العود.



وفى أي معاملات ومن بينها البيع والشراء فالله يأمرنا بأن يؤدى كل إنسان ما عليه من واجب وأن يأخذ كل ما له من حق، وحذر من التطفيف فى الموازين لأنه يجور على حق طرف لمصلحة طرف آخر حتى الأخلاق والفضائل التى جاء بها الإسلام كلها مطلوبة ومستحبة على صورة وسطية معتدلة، فالكرم ليس تبذيرا ولا بخلا وفى الآية الكريمة «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط»، وكذلك الأكل له وسطيته التى حددتها السنة المطهرة «فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه»، وذكرها القرآن الكريم: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» وحياة المسلم بصفة عامة هى نوع من الوسطية، فهو مطالب بأن يعيش دنياه وأن يعمل أيضا لآخرته كما بين القرآن الكريم: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا»



تحقيق التقوى حسب الاستطاعة



الإنسان جسد وروح.. لكل منهما احتياجاته التى قد تبدو متعارضة مع الآخر، فالجسد مهموم بشهوات الجنس والأكل والشرب، والروح تريد أن تسمو وترتقى فوق هذا كله.. تلك المعادلة الصعبة فى التوفيق بين حاجات الجسد وأشواق الروح، نجح الإسلام ــ كما يقول الدكتور محمود الصاوى أستاذ الثقافة الاسلامية بجامعة الازهرــ فى أن يقدم لها حلولا وسطية تتضح مبادئها بشكل تطبيقى فى قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا عنها كأنهم تقالوها (اعتبروها قليلة)، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر كله ولا افطر، وأما الثانى فقال: وأنا أصلى الليل كله ولا ارقد، بينما قال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء !



فلما بلغ ذلك النبى دعاهم، ليبين لهم والأمة كلها من بعدهم أن هذا الدين يقوم على الوسطية والتيسير ومراعاة حوائج الناس وطبائعهم، ولا يتجاهل إشباع غرائزهم، وسألهم: أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، ونلاحظ هنا المنهج التربوى الرائع الذى يحرص على التثبت أولا من الأقوال، ومجرد أن تأكد صلى الله عليه وسلم من صحة نسبة الكلام إليهم، بدأ مرحلة الشرح والتصحيح، قائلا : «أما إنى أخشاكم لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، وختم محذرا: «فمن رغب عن سنتى فليس منى» إذن فالإسلام لم يصادر غريزة الجنس، ولم يقهرها لمصلحة الروح أبدا بل نظمها وهذبها، وأباح الزواج لتلبية هذه الغريزة من ناحية، ولحماية الأعراض وعدم اختلاط الانساب، من ناحية أخرى، كما جعل للروح غذاءها من الرسالات والشرائع الإلهية على مر العصور والأزمنة، وبالنسبة لغريزة حب الطعام والشراب يوضح دكتورالصاوى، أن الشريعة أباحت للإنسان كل شيء ينفعه ولا يضره، وحرمت عليه الخبائث، والطبيعة البشرية تستلزم أن يجاهد الإنسان نفسه ليصلحها: كما جاء فى الآية القرآنية» قد أفلح من زكاها» وليس مطلوبا منه أن يحقق أكمل درجات التقوى، إذ عندما نزل قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته» شق ذلك على الصحابة، فأنزل الله: «فأتقوا الله ما استطعتم».



ويستدرك د. الصاوى موضحا، أن النظرة إلى الوسطية وإلى التيسير الذى أقرته مجموعة من القواعد الفقهية مثل: (المشقة تجلب التيسير) و(لاضرر ولاضرار) .. (وإذا ضاق الأمر اتسع) يجب ألا يفهم منه أن التفريط غير مذموم، بل على العكس فالتفلت من الشريعة والاستهتار بالفرائض والتشريعات واتهامها بالتخلف والرجعية، والعودة إلى القرون الماضية، يعد نوعا من العبث بالأحكام والاستهتار بها والاستهزاء بآيات الله ولا علاقة له من قريب أو بعيد، بالتيسير لكنه نوع من الكبر على أوامر الله ونواهيه واستهتار بأحكامه الشرعية.






شيخ الأزهر: من يتشدد فى دين الله ويغالى فى أحكامه معتد على حرمة الإسلام



بيَّن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، أن الوسطية تمثل صمام أمان فى هذا الدين الحنيف، كما يمثل الخروج عليها خروجًا على الدين ذاته، سواء كان الخروج إلى طرف الإفراط أو التفريط، وضابط الفرق بينهما أن الإفراط زيادة على ما شرعه الله لعباده، والتفريط انتقاص من شريعة الله وأحكامه، والتشدد والتقصير كلاهما قبيح ومذموم؛ لأنهما يمثلان خروجا عن الوسط الذى هو العدل، وأوضح الإمام الأكبر فى برنامجه الرمضانى : «الإمام الطيب»، أن من يتشدد فى دين الله ويغالى فى أحكامه فيحرّم على الناس ما أحله الله لهم، أو يوجب شيئا لم يوجبه الله عليهم؛ ليس بأحسن حالا، ولا أفضل منزلة ممن يجرؤ على فتاوى أو آراء يزيف بها الدين، ويعتدى بها على شريعة الله، لقاء منصب أو مال أو جاه؛ فيحل للناس ما حُرم عليهم، أو يدلس عليهم فى أحكام الحلال والحرام، كلاهما معتد على حرمة الإسلام، وكلاهما كذاب يزعم لنفسه حق التشريع فى الدين بما لم يأذن به الله.



وتابع فضيلته: كل محاولة من هذا القبيل -إفراطا أو تفريطا- هى فى واقع الأمر محاولة لتفريغ الإسلام من مضمونه، الذى أراده الله تعالى لهذه الأمة، وطبقه رسوله من خلال أفعاله وأقواله الشريفة، وقد ابتلى المسلمون فى كل زمان ومكان بشرذمة من هؤلاء وهؤلاء، يُضللون الشباب بفتاوى وآراء تُغرى إما بالتفلت من قيود الدين وضوابط الشرع، وإما بالتشدد والانغلاق والانسحاب من المجتمع، ولا عاصم من سموم هؤلاء وهؤلاء إلا بسؤال أهل الذكر ممن يبلغون رسالات ربهم ويخشونه، ولا يخشون أحدا إلا الله.



 



د. عبدالجواد: معظم مسائل الفقه محل «خلاف».. وإنكاره تطرف



 كثير من المسلمين لا يفهمون، كيف يمكن لأحدهم أن يأخذ فتوى أو رأيا فقهيا، بينما يأخذ غيره برأى آخر عكسه تماما، ويكون كلاهما على صواب؟



الدكتور محمود عبدالجواد أستاذ الفقه المساعد بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، يقدم لنا تفسيرا من خلال شرح طبيعة الأحكام الفقهية فى الشريعة الإسلامية، وكيف أنها تنقسم إلى قسمين، أولهما: أحكام قطعية من القرآن الكريم والسنة النبوية مثل أركان الإسلام، والكفارات، والأعداد، والحدود، وهذه لم تكن أبدا محل خلاف ولن تكون، وثانيهما: أحكام ظنية أى تقبل التأويل والإحتمال، بمعنى أن الدليل فيها يحتمل أكثر من معنى، مثل القدر الواجب فى المسح على الرأس فى الوضوء، أو ولاية المرأة على نفسها فى عقد الزواج، فهذه أمور اختلف فيها العلماء، ونظم هذا الخلاف قاعدة فقهية مهمة ومتفق عليها أيضا، وهى أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد، أى أن الأمور التى مردها الدليل الظنى، من العادى أن يختلف فيها العلماء، وأن يكون لكل عالم اجتهاده، ولا يصح القول إن هناك رأيا أو اجتهادا مفضلا عن الآخر، كما لايصح لوم أو تأنيب من يختار رأيا منهم دون غيره، مادام أن الخلاف فى الأمور الظنية، لأن هناك قاعدة أخرى تقول: لا يُنكر المُختلف فيه لأن الرأى لا يًفُضل على غيره.



وهاتان القاعدتان ــ كما يستطرد دكتور عبدالجواد، هما أساس الوسطية فى الشريعة الإسلامية، موضحا أن هناك العديد من القصص والمواقف التى تبين اختلاف الصحابة والسلف الصالح والعلماء فى كثير من المسائل الفقهية، محل الخلاف، مؤكدا أن مسائل الفقه محل الإتفاق لا تتجاوز نسبتها 5% تقريبا من جملة مسائل الفروع الفقهية، التى تعد بالآلاف، والباقى كله محل اختلاف.



ومن الوسطية كذلك فى القواعد الفقهية الأخرى أن: المشقة تجلب التيسير، حيث إن كل أمر من الأحكام الشرعية يطرأ عليه مشقة غير معتادة، تفوق قدرة المُكلف بالحكم، يجب أن تنقلب فورا إلى تيسير وتخفيف، أو تُزال بالكلية، مثل مشقة الصيام فى السفر أو على المريض، وينبه دكتور محمودعبدالجواد، إلى أن محاولة فرض رأى واحد، وعدم إظهار باقى الآراء أو إنكارها، يخالف تماما الدين ووسطيته، ويعتبر تربة خصبة وممهدة للأفكار والجماعات المتطرفة، التى يعتبر سبب جنوح الكثير من أفرادها تشبثهم برأى واحد وإصرارهم على حمل المجتمع كله عليه، واعتبار من يخالفهم خارجا عن الدين، لذا يجب نشر هذه القواعد لعوام المسلمين، ويجب على العلماء كذلك أن يُظهروا دوما عندما يقدمون رأيا أو فتوى، حولها خلاف، أن هناك رأيا آخر يمكن أيضا الأخذ به.



 



د. السعيد محمد على:  التدرج فى المنع والتحريم .. واللطف فى الوعظ والنصيحة



الدعوة تحتاج لخطاب وسطى يراعى الاختلاف بين الناس> «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» آية قرآنية ما من مسلم تقريبا إلا ويحفظها عن ظهر قلب، والآن نعيد تأملها لنكتشف أنها ترسم خط الدعوة إلى الله بأسلوب هادئ، وكلام طيب ليس فيه غلظة أو فظاظة، مع ملاحظة أن هذا كان أسلوب دعوة النبى صاحب الرسالة فما بالنا، نجد بشرا عاديين ــ ليسوا بأنبياء ولا مرسلين ــ دعوتهم منفرة، ونصيحتهم ثقيلة وغير مقبولة، فلنعلم أن هؤلاء بعيدون تماما عن تعاليم الدين، مزيد من تطبيقات الوسطية فى مجال الدعوة يوضحها الدكتور السعيد محمد على، من علماء وزارة الأوقاف، قائلا: راعى الخطاب فى مجتمع الجاهلية شدة تعلق الناس بطريقة حياتهم، فجاء التدرج فى التحريم، كما سجله القرآن الكريم بدءا من : قوله تعالى «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما» ومرورا بقوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» وانتهاء بالمنع كليا فى الآية الكريمة: « إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه»



ويضيف: الداعية يجب يكون أن رقيقا ولينا وليس غليظا حتى لا ينفر الناس من دعوته ونصيحته، وعليه كذلك أن يكون عفوا ويعفو ويصفح عمن ظلم ويغفر لمن اساء إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطى من حرمه، ويصل من قطعه، ولم يمنع كونه نبيا من أن يشاور ويستشير من فى رعيته أو تحت قيادته، قال تعالى (وشاورهم فى الأمر) ثم يتخذ القرار المناسب فى الوقت المناسب قال تعالى (فإذا عزمت فتوكل على الله).



وكذلك كان التدرج القرآنى فى تناول قضية الربا: «وما آتيتم من ربا ليربو فى أموال الناس فلا يربو عند الله» ثم: « لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة» حتى نزل القطع بالتحريم «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا»



ومن وسطية الدعوة أيضا التنوع فى الأساليب لتشمل كل أصناف الناس، فتارة يكون الخطاب للعقل وتارة يكون للقلب، ومن تطبيقاتها الرائعة، قصة الشاب الذى جاء إلى رسول الله يستأذنه فى الزنا فأقبل القوم عليه يزجرونه وينهرونه بشدة لتجرئه، فما كان من النبى صلى الله عليه وسلم إلا أن قربه منه وسأله بكل هدوء: (أترضاه لأختك؟ أترضاه لأمك؟ أترضاه لعمتك؟ أترضاه لخالتك ؟ وفى كل مرة كان الشاب يجيب بالنفى، فقال له النبى: وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم ولا أخواتهم ولا عماتهم ولا لخالاتهم، ثم وضع يده الكريمة على صدر الشاب ودعا له، وغادرالشاب وهو يقول: دخلت على النبى صلى الله عليه وسلم، والزنا أحب الأشياء إلى قلبى وخرجت من عنده والزنا أبغض الأشياء إلى قلبى، وليس هذا إلا ثمرة من ثمار رفق الدعوة حتى مع من أراد كبيرة من الكبائر .



ويؤكد د. السعيد، أننا لو التزمنا منهج الدعوة الوسطى الذى أمر به الله فى قوله تعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» فى تجديد الخطاب الدينى، لكان له أثر بالغ فى معالجة التطرف الفكرى والانحراف السلوكى، خاصة لدى الشباب فالدعوة تحتاج إلى علماء نابهين يتعاملون مع نفوس المدعوين، كما يتعامل مهرة الأطباء مع جوارح الآدميين، وأن يؤسسوا لخطاب وسطى يعترف بكون الاختلاف بين الناس سنة أرادها الله: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين»



 



ختاما: حديث الوسطية لا يهم المسلم فقط، وإنما المجتمع بأسره ــ مسلم وغير مسلم ــ الكل يستفيد إذا أصبحنا بشرا وسطيين تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، ولا ننسى أن فى الاحتماء بالوسطية أمانا للوطن، وسلاما للمجتمع.