تعتبر أحكام المحاكم الدولية المؤيدة للمواقف الفلسطينية خير سند للشعب الفلسطينى فى نضاله المشروع من أجل العدالة والحرية والاستقلال. فقد لجأت فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فى الجرائم المرتكبة من قبل إسرائيل فى الأرض الفلسطينية المحتلة، كما سعت إلى استصدار رأى استشارى من محكمة العدل الدولية حول الآثار القانونية المترتبة على إقامة إسرائيل جدارا عازلا فى الأرض الفلسطينية المحتلة، ثم رفعت دعوى ضد الولايات المتحدة أمام تلك المحكمة الدولية للفصل فى نزاع نقل سفارتها إلى القدس. وقد استندت فلسطين فى جميع تلك القضايا إلى أحكام القانون الدولى ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها التى تؤيد مواقفها ومطالبه المشروعة.
وتأكيداً للوضع السياسى والقانونى الذى اكتسبته على الساحة الدولية انضمت فلسطين إلى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية عام 2015 ـ وأذكر فى هذا السياق الدور النشط والفعال الذى قام به خلال المؤتمر عدد من الخبراء القانونيين المصريين من بينهم السفير د.نبيل العربى رئيس الوفد المصرى والسفير د. حسين حسونة رئيس وفد جامعة الدول العربية والدكتور شريف بسيونى رئيس لجنة الصياغة فى المؤتمر. وكان هدفنا آنذاك هو إنشاء محكمة دولية تتمتع بالحياد والاستقلالية ولا تخضع لنفوذ الدول الكبرى أو تتأثر بالاعتبارات السياسية.
وعقب انضمام فلسطين للنظام الأساسى للمحكمة، أحالت الوضع فى فلسطين عام 2018 إلى المدعية العامة للمحكمة فاتوبنسودا التى أعلنت أنه اتضح لها من خلال بحث تمهيدى أنه تم ارتكاب جرائم حرب فى الأرض الفلسطينية المحتلة تتطلب العدالة التحقيق بشأنها. وإدراكاً منها للظروف التاريخية للأرض الفلسطينية المحتلة طلبت المدعية العامة عام 2020 من الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة إصدار قرار حول الاختصاص الإقليمى للمحكمة فى فلسطين، فصدر هذا القرار عام 2021 بأغلبية القضاة مؤيداً طلب المدعية العامة ومؤكداً أن فلسطين دولة طرف فى النظم الأساسى للمحكمة وأن اختصاص المحكمة الإقليمى يشمل الأراضى الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل منذ 1967 أى غزة والضفة الغربية بما فى ذلك القدس الشرقية. وفى ضوء قرار المحكمة أعلنت المدعية العامة فى مارس 2021 فتح تحقيقات حول الوضع فى فلسطين مؤكدة ان هذا التحقيق سيتم باستقلالية وحياد وموضوعية توصلا إلى تحديد المسئولية الجنائية لمرتكبى الجرائم. ثم قامت بإرسال إخطار إلى الحكومة الإسرائيلية بفتح تحقيق فى جرائم حرب يشمل ثلاثة مسارات :الحرب على غزة عام 2014، وقمع مسيرات العودة عام 2018، والنشاط الاستيطانى فى الأراضى المحتلة ـ وفيما يتعلق بالآثار العملية المترتبة على قرار المحكمة، فتتضمن إمكانية صدور قرارات بالقبض على قادة وأعضاء القوات الإسرائيلية وكذا كبار المسئولين الإسرائيليين إذا ما ثبت من خلال التحقيق تورطهم فى ارتكاب تلك الجرائم.
هذا وقد تباينت ردود الفعل الدولية إزاء قرار المحكمة حول ولايتها القضائية وفتح تحقيق فى جرائم إسرائيل، فعلى الصعيد العربى رحبت به السلطة الفلسطينية باعتباره انتصاراً لمبادئ العدالة، كما رحب به مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب فى فبراير 2021. أما حركة حماس فقد رحبت بالقرار أيضاً معلنة أنها لا تخشى التحقيق فى أعمال المقاومة الفلسطينية حيث تعتبر مشروعة وفق القانون الدولى. وعلى الصعيد الدولى رحب بالقرار ميكل لينك المقرر الخاص للأمم المتحدة لوضع حقوق الإنسان فى الأراضى الفلسطينية المحتلة ووصفه بخطوة مهمة فى سبيل العدالة وتوقيع العقاب على مرتكبى الجرائم الخطيرة إبأن الاحتلال الإسرائيلى الممتد والذى أخفق المجتمع الدولى فى إنهائه. كما رحبت بالقرار عدد من المؤسسات الحقوقية الدولية كمنظمة العفو الدولية والاتحاد الأمريكى للحريات المدنية فضلا عن لجنة حقوق الإنسان فى البرلمان الأوروبى. ومن جانب آخر أدان رئيس الوزراء إسرائيل نيتانياهو المحكمة بشدة متهماً إياها بمعاداة السامية . كما اعترضت على القرار الولايات المتحدة حليفة إسرائيل بحجة أن فلسطين تفتقد صفة الدولة فى القانون الدولى. وإيماناً منها بدور القضاء الدولى وإنصافه سعت فلسطين بدعم عربى إلى استصدار رأى استشارى من محكمة العدل الدولية حول موضوع الجدار الفاصل وذلك بناء على طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2003 ـ وفى هذا السياق أذكر أن الوفد الفلسطينى لدى الأمم المتحدة برئاسة السفير ناصر القدوة قد لعب دوراً مهماً فى حشد الجهود الدولية من أجل إحالة الموضوع إلى المحكمة من قبل الجمعية العامة، وقد شاركنى آنذاك بصفتى رئيساً لبعثة جامعة الدول العربية لدى الأمم المتحدة وخبيراً فى القانون الدولى، فى صياغة السؤال الموجه من الجمعية العامة من المحكمة حول الآثار القانونية المترتبة على بناء الجدار ـ وذهبت المحكمة فى رأيها الاستشارى الصادر عام 2004 إلى أن هذا الجدار غير شرعى حيث إن إقامته من قبل إسرائيل داخل الأراضى الفلسطينية تعد ضما واقعيا لتلك الأراضى كما يحول دون ممارسة حق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير. وأكدت المحكمة أيضا عدم مشروعية المستوطنات المقامة فى الأرض الفلسطينية المحتلة استنادا إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949 والنظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.وختاماً فلا شك أن أحكام القضاء الدولى المؤيدة لفلسطين سوف تظل ذات تأثير على مواقف الدول والمؤسسات القضائية الوطنية والدولية، ممن يؤكد أهمية تلك الأحكام فى مؤازرة الجهود الدبلوماسية التى تبذلها السلطة الفلسطينية من أجل إقرار الحقوق الفلسطينية المشروعة، وهى جهود تستحق كل الدعم والتأييد.