أنتج العقل الغربى جل تصوراته الحديثة فى مسعاه إلى تعقل الوجود حوله، فبدت حركته كرحلة سير فى أرض بكر، تمثل فيها التيارات الفلسفية: المثالية والنقدية والمادية. والمناهج العلمية: التجريبية والوضعية والميكانيكية ما يشبه حركة كشوف عقلية أنتجت وعيا جديدا، يتوازى مع حركة الكشوف الجغرافية التى أنتجت عالما جديدا. أما العقل العربى الحديث فأنتج تصوراته فى ساحة مزدحمة بتقليدين أساسيين: الأول هو التقليد الغربى نفسه. والثانى هو الموروث الذاتي، وليد النهضة الإسلامية الأولى التى تجاوز التاريخ أبنيتها. وقد أفضى ذلك إلى تبعية مزدوجة للعقل العربى الذى أخذ يتحرك فى فلك ثنائيات مستعارة أدت إلى تعقيد عملية التحديث، بلغت ذروتها فى (الأصالة ـ المعاصرة)،.
كان لتلك الثنائية، التى اختارها زكى نجيب محمود لمشروعه التوفيقى من الجاذبية اللغوية والرشاقة اللفظية، قدر خلب لب كثيرين، بينهم كاتب هذه السطور منذ كان صبيا يافعا. غير أن خمسة عقود مرت على نحتها وثلاثة عقود على رحيل صاحبها، كشفت عن عدم فعاليتها فى أداء المهمة التى أنيطت بها، أى إخراجنا من كهف الصراع بين ثنائيات متناقضة وساكنة، تتعارك فيما بينها من خلف خطوط قتال محصنة، والدفع بنا إلى فضاء الجدل بين الأفكار والوقائع، بين المفاهيم والظواهر بشكل مباشر. كان المفترض أن يقترب الموقف التوفيقى تدريجيا من الموقف النقدي، بعد كل ما استهلكه من مشروعات فكرية قيمة نهض بها مفكرون كبار من طراز محمد عابد الجابرى ومحمد أركون وعبدالله العروى وحسن حنفى ونصر أبو زيد وعبد الإله بلقزيز وناصيف نصار وجابر عصفور وجابر الأنصارى وغيرهم.
يبقى الموقف التوفيقى إستراتيجية لا بديل عنها، فالانحياز لأحد طرفى الثنائية خيار مستحيل بل عدمي، ولكن تبقى المشكلة فى كيفية ممارسته حتى لا ينحرف نحو التلفيق كما جرى بالفعل فى نصف القرن الماضي. ثمة دوافع سياسية لهذا الانحراف، حيث وجدت دوما فجوة واسعة بين طبيعة السلطة العربية التقليدية حتى النخاع رغم الشكل الحداثى الذى تمت استعارته، أو بين الخطاب الإيديولوجى الذى أطلقته حول التنمية والديمقراطية والعدالة، وبين المسارات العملية التى سلكتها نحو السلطوية والظلم، اللهم فيما ندر. إنها الفجوة التى نبعت منها ظاهرة المراوغة بين الأبنية ووظائفها العملية، بين المؤسسات وأدوارها الحقيقية. لقد كان هناك البرلمان لكنه لا يشرع، وهناك المركز البحثى الذى لا ينتج علما بالطبيعة أو معرفة بالمجتمع.. الخ. لكن ثمة دافع ثقافى أعمق يتمثل فى الخيال السلبى الذى خلقته صيغة الأصالة ـ المعاصرة، فالنظرة المدققة إليها تكشف كيف وضعت الذات العربية فى علاقة سلبية بالزمن، إذ ينطوى مفهوم الأصالة على بعدين متداخلين: أولهما حقيقي، يصنع الشعور الثقافي، ينصرف إلى المكونات الأساسية للهوية الثقافية، من قبيل العقيدة الدينية، واللغة، والتجربة المشتركة.. الخ.
أما الثاني، فمتوهم، يصوغ اللاشعور الثقافى الماضوي، إذ يشير إلى قوالب حياة وأنماط عيش تعكس البيئة التى تشكلت فيه مكونات الهوية للمرة الأولي. ومن ثم يمثل مفهوم الأصالة طرفا فى معادلة طرفها الآخر هو (الخصوصية + الزمن). المفترض أن مكونات الهوية هى محور تكوين الخصوصية، لا يمكن التخلى عنها. وأن القوالب المحيطة بها عرضية، يجب عدم التوقف عندها مادامت شكلت قيدا يعوق تجددها، وهو الفهم الذى يسود عندما تكون الذات الحضارية يقظة وناهضة، لديها من الثقة بالنفس ما يجعلها قادرة على إدراك حدود خصوصيتها الجوهرية، وعلى التفاعل مع المعطيات المحيطة بها. أما فى المراحل التاريخية التى تشهد أفولا وتراجعا فالأغلب أن تفقد الذات ثقتها بنفسها ويختلط عليها الأمر بين الجواهر والأعراض، بين مكونات هويتها وبين قوالب تشكيلها، ليزداد حذرها مما يحيط بها من جديد يمت لذات حضارية أخري، يفضى اختياره إلى الذوبان فيها والتبعية لها. هكذا باتت الأشكال والقوالب التاريخية التى صُبت فيها الذات العربية فى عصر النبوة، ثم عصر التدوين (بين منتصف القرنين الثانى والرابع الهجريين) مستودع الأصالة الكاملة، وباتت لحظة تشكيلها فوق تاريخية.
ولم تعد خصوصيتها الحقيقية طرفا فى ثنائية تتجادل مع طرفها الآخر (الذات الغربية المعاصرة)، بل فى ثلاثية، تجمعها مع صورتها القديمة، وصورة الغرب الراهنة، ليزداد شعورها بالاغتراب وينتهى بها الأمر إلى الوقوع فى أسر التلفيق. يقتضى الخروج من مأزق التلفيق استعادة هويتنا من براثن الزمن، بإعادة تأكيد مكوناتها الأساسية وليس على لحظة تكوينها، ليصبح حضورها رهنا باستلهام ثوابتها، وليس استعادة القوالب التاريخية التى أحاطت بلحظة تدشينها، فنصبح أمام ذاتنا التى تعكس تكويننا لا ماضينا، وتتحرر هويتنا من مفهوم الأصالة والخيال الماضوى الساكن فيه لترتبط بمفهوم الكينونة وثوابته الجوهرية. هنا يمكننا تحقيق الفصل بين عقيدة التوحيد المطلق المحررة للذات الإنسانية، وبين التأويلات الكلامية التى تجعلها عقيدة جبرية خصوصا لدى الجهمية والأشعرية. بين المبادئ العليا للشريعة والمتجذرة فى النص القرآنى وبين الفقه البدائى النابع من البيئة. بين السلوك الأخلاقى المحتشم وبين أشكال اللباس البدائى كالنقاب. ومن ثم ندعو إلى التخلى عن الثنائية «التوفيقية الأصالة ـ المعاصرة» وتبنى ثنائية نتصورها أكثر نقدية وهى «الخصوصية ـ الكونية».
تعنى الخصوصية هنا الذات العربية الراهنة بكل ما اكتسبته عبر تاريخها من سمات جوهرية، بعيدا عن القوالب الشكلية المرتبطة بالزمن. وتعنى الكونية التجربة الإنسانية برمتها بعيدا عن هاجس الغرب. تعمل هذه الصياغة النقدية كآلية ذهنية لتسهيل عملية التكامل بين القيم الجوهرية الكامنة فى ذاتنا والقائمة فى عالمنا، كونها قادرة على أن تفصل بين الشكل والمضمون، بين الطقوس والقيم، الثوابت والمتغيرات، وأن تعزل القوالب: الطقوس والمتغيرات لأنها تاريخية تعكس لحظة التشكيل وتبقى على الجواهر: القيم والثوابت لأنها تكوينية تصنع الهوية. إنه الانتقال الضرورى من ضغوط علاقة مع الغرب إلى العلاقة المباشرة مع العقل، ومن النزعة التلفيقية إلى الروح النقدية. نكمل فى الأسبوع المقبل.