مشاهد من حياة قرينة «الزعيم »..تحية عبد الناصر .. فنانة أجادت التكتم
« فراقه وافتقادى له. لم أفتقد أى شيء إلا هو.. أى لا رئاسة الجمهورية ولا حرم رئيس الجمهورية...»، ذلك ما كتبته السيدة تحية محمد كاظم أو تحية جمال عبد الناصر فى مستهل مذكراتها التى صاغتها بأسلوب سلس وأودعتها خزينتها، فلم تر النور إلا بعد وفاتها مطلع التسعينيات. وكانت هذه الكلمات خير معبر عن طبيعتها البالغة التوازن والحساسية، وطبيعة الدور الفارق الذى أعدتها من أجله الأقدار.
تحيى أسرة جمال عبد الناصر ومحبوه هذه الأيام الذكرى الـ 29 لوفاتها التى حلت فى 25 مارس 1992. ولتحية مع مارس قصة طويلة، إذ إنها ابنة الشهر الربيعى، فقد ولدت فى الأول من مارس عام 1920. عاشت رحلة طويلة كانت عدة تحية كاظم لخوضها الكثير من الحكمة والهدوء غير الغافل عن مسئوليتها الشديدة الحساسية كقرينة لزعيم مصرى وعربى استثنائى غير وجه تاريخ المنطقة إلى الأبد. يقال دوما إنها التزمت لذاتها بـ «الدور الخفى»، ولكن كل من يعرفها يدفع بغير ذلك، فيرجح أنها التزمت لنفسها بـ «الدور الفعال الهادئ». فى مذكراتها، « ذكريات معه»، حكت تحية عبد الناصر كيف كان خط ما عايشته مع الزعيم الراحل مهمة غير هينة، كانت تستدعى الكثير من الذكريات والشجون التى ما كان لها أن تحتملها. وظلت على عهد محاولات كتابة المذكرات ثلاث سنوات كاملة، فلم تقو على إتمام فعل التدوين إلا فى العام الثالث على رحيل ناصر 1973.
كانت هذه هى تحية، التى تصفها منى عبد الناصر للأهرام بأنها: «سيدة تملك كما من الحنان يكفى العالم بأسره، وكانت ذات رؤية فلسفية للأمور، ولكن فلسفتها كانت ذات طابع هادئ».
فنانة أنيقة
وتزيد منى عبدالناصر فى وصف جوانب خفية عن الوالدة الراحلة، فتقول: «كانت تتمتع بسمة مميزة لم يرثها عنها إلا أخونا عبد الحميد، وهى أنها كانت ذات أذن موسيقية قوية، فكان يكفى أن تسمع قطعة موسيقية بعينها بضع مرات، لتعيد عزفها ببراعة على البيانو».
وتكشف الابنة منى أن والدتها كانت عاشقة لفنون المسرح. وتعيد تلك الشهادة المرء إلى ما خطته الراحلة فى مذكراتها عن فترة الخطبة، وكيف أن نزهاتها مع الزعيم الراحل كانت دوما ما بين السينما والمسرح، وكيف كان والدها حريصا على متابعة مسرح الفنان الكبير نجيب الريحانى. ويبدو أن الريحانى كان بداية العقد فى نجوم المسرح الذين تابعت السيدة تحية أعمالهم. فتحكى السيدة منى: «كل المسرحيات التى رأيتها فى حياتى كانت فى صحبتها، كانت تعشق مسرح فؤاد المهندس، وتابعت أيضا أعمال عادل إمام وصولا إلى أعمال محمد صبحى». وتضيف : « تعارفى على فن الباليه وأبرز عروضه محليا وعالميا كان بفضلها، بل إن أول عروض الأوبرا التى قدمها فنانون مصريون مثل الراحلة القديرة رتيبة الحفنى فى أوبرا (الأرملة الطروب)، كانت والدتى من أشد المهتمين بها والمتابعين لعروضها».
وعن هوايتها الأخرى، كشفت منى ناصر أن السيدة تحية كانت تتقن فنون الحياكة واعتادت إعداد ملابس أبنائها فى مرحلة ما قبل الرئاسة، وحتى بعدها اعتادت حياكة بعض القطع بنفسها وتبرز فيها حسها الأنيق.
وتسلط منى عبدالناصر الضوء على سمة أخرى من أبرز سمات شخصية السيدة تحية، فتوضح أنها لم تغفل قط دورها كقرينة لرئيس البلاد، إذ كانت حريصة على القيام بمسئوليتها البروتوكولية المختلفة.
وإن كانت تحية عبدالناصر حانية هادئة فى أغلب الأمر، إلا أنها كانت بالغة الصرامة فيما يتعلق بالتعامل مع «المال العام». تقول منى: « كانت دوما ما تصف مسألة المال العام بحق بيت المال، كان ذلك تعبيرا التزمت به دوما فى الإشارة إلى المال العام». وكانت آخر وصاياها إعادة كل ما يعد «عهدة» إلى الدولة المصرية.
أجمل قصة حب
أما عبد الحكيم جمال عبدالناصر، أصغر أبناء الراحلين، فيبدأ الحكى عن الوالدة، فيقول : «كان مركز حياتها الوالد وأبناءه، فهى كانت أما مثالية طالما حمدت الله أنه مّن على بها».. وفى وصف ما شاهده من علاقة السيدة تحية بالزعيم الراحل، يحكى عبد الحكيم: «تعد زوجة مثالية أيضا، يكفى انه بعد ثلاث سنوات فقط من اقترانها بوالدى فى 1944، توجه جمال عبد الناصر للمشاركة فى حرب فلسطين لتفصل بينهما ساحات المعارك، وكانت هذه المعارك وويلاتها التى دفعت الوالد إلى حسم أمره بخصوص إنقاذ بلاده وأهلها».
ولعل فى حديث عبدالحكيم تذكرة بنصوص الرسائل المتبادلة بين الزعيم وقرينته خلال فترة حرب فلسطين ، والتى ضمنتها السيدة تحية فى كتابها الأوحد، فمما جاء فيه، خطاب جمال عبدالناصر بتاريخ 23 يوليو 1948، يقول فيه: «وحشنى منزلنا جدا وإن شاء الله سأحضر قريبا .. وبالمناسبة دى يوم 20 رمضان سأحصل على رتبة صاغ».
يعود عبد الحكيم قائلا: «كانت بذكائها تدرك أن زوجها يعكف على إعداد شيء ما، شعرت بذلك وتيقنت منه، ولكنها التزمت الصمت الواثق من خيارات وتقييم زوجها للأمور. كان لديها إيمان كامل بزوجها ومعتقداته الإنسانية والوطنية. فقدمت كل الدعم دون إزعاج الأسئلة والاستفسارات. وظلت على ذلك العهد حتى قيام الثورة».
وعن مرحلة ما بعد الثورة، يؤكد عبد الحكيم: «لم تنبهر قط بمرحلة السلطة، فقد كان انبهارها الأوحد يتركز فى شخص رفيق عمرها، فقد كانت تجمعهما قصة بالغة الرومانسية وتفاهم يندر تكراره». ورغم غياب الانبهار، إلا إنها كانت واعية بمتطلبات دورها، فقد كانت تجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية وتحسن استقبال ضيوف مصر، وذلك كله جنبا إلى جنب مع قيامها بمهامها كأم تربى خمسة أطفال. يقول عبد الحكيم: «لم تكن قط منطوية بل كانت سيدة ذات وعى كبير وإدراك لأهمية دورها، وإن كان ذلك دون مبالغة. وحافظت على كثير من علاقاتها الطيبة بقادة الدول،فقد استقبلتها الزعيمة أنديرا غاندى بشكل مهيب فى الثمانينيات بعد سنوات من وفاة الوالد».
صديقة بنت الشاطئ
أما الصحفية الكبيرة عايدة رزق، نجلة أخت السيدة تحية، فتصفها بأنها «خلقت لتكون زوجة ثائر، فوجدانها تضيئه الأفكار النبيلة، وفؤادها يخفق للمثل العليا، ولم تكن تهتم بالماديات، وقد شاهد عبد الناصر ذلك كله عندما قابل لأول مرة تلك الفتاة البيضاء ذات الوجه البشوش والشعر الأسود، فاختارها لتكون رفيقة دربه».
وتزيد عايدة رزق موضحة: «كانت صاحبة قدرة على التأمل ورابطة الجأش فى أصعب المواقف وجمعتها صداقات قوية بنساء عصرها المميزات مثل الدكتورة بنت الشاطئ والدكتورة مفيدة عبد الرحمن. وكانت صاحبة حديث يمزج ما بين المرح والرصانة وسرعة البديهة. وتكشف السيدة عايدة أنها كانت تعشق قراءة الشعر، وتعيد كتابة الأبيات التى تعجبها، لتحتفظ بها فى قصاصات تعد من أغلى المقتنيات لديها».
وحول مرحلة ما بعد وفاة عبد الناصر، تحكى الكاتبة عايدة رزق مؤكدة أنها بدأت فترة حداد طويلة، تخللتها فترات التمشية فى حديقة منزلها لتجمع باقة ورد تزور بها قبر زوجها. وتختتم شهادتها قائلة : «جمعتها بعبد الناصر إحدى أجمل قصص الحب، وأفخر بأن تحية كاظم كانت خالتى».