من طبائع الأمور أن نتذكر وجوها قليلة صاحبة إنجاز مؤثر، أو علامة فى التاريخ، أو فى مجال من المجالات، لتعبر صاحباتها عن دور المرأة. ويستدعى يوم المرأة الاحتفاء بهذه الرموز كتذكرة بأن المرأة تستطيع أن تبرز، وتترك بصمتها، وتنجح مثلها مثل مائة رجل كما يفتخر المثل المصرى، الذى يعبر عن الإعجاب بالمرأة بإخراجها عن طبيعتها الأنثوية لتصبح كالرجل أو كمجموعة من الرجال! ويرتبط يوم المرأة فى مصر عادة بالاحتفاء بسيدات من أعلام الحكم، والتاريخ، والفن، والعلم، والسياسة، والثقافة، والرياضة، وهن بالتأكيد جديرات بهذا التكريم. ولكن مع اعتزازى بنفرتيتى، وحبى لأم كلثوم، وتقديرى لعدد لا نهائى من رائدات الفكر، والفن، والثقافة، فى مصر، أود تخصيص هذه المساحة لبطلات عاديات لا يعرفهن أحد، بل إن مكمن الاحتفاء هو اعتياد عطائهن حتى حسبناه لا يستدعى الالتفات.
أيقونتى الأولى هى أمى، التى يحل يوم المرأة، وعيد الأم هذا العام، بعد أقل من شهرين من مغادرتها الحياة، بعد أن شكلت فى وجدانى ووجدان الكثيرين ممن عرفوها ماذا يعنى أن تكون امرأة. كانت خليطا من القوة، والعزيمة، والمثابرة، والحكمة، والإنصاف، والحنان، والرحمة، والطيبة، والعطاء. أدت أمى كل أدوارها فى الحياة بسلاسة واقتدار. كل من عرفها كزميلة أو رئيسة عمل، أو جارة، أو قريبة، أو صديقة، يجمع على الإشارة إليها بأنها كانت إنسانة عظيمة. هكذا علمتنا أمى كيف تكون المرأة، ليست بمائة ولا بألف رجل، وإنما امرأة تحمل هموم أسرتها، ومجتمعها ووطنها فى قلبها، وتغزل من عطائها حيوات لكل من حولها.
من بين مدرساتى تكثر البطلات، ميس سميرة، متقدة الذهن جميلة الروح، المثال الخلقى والعلمى منذ طفولتى وحتى يومنا هذا، ميس مايسة، الشابة المتمردة بمقاييس أوائل الثمانينيات،التى زرعت بذور الاهتمام بالقضايا النسوية ومناقشتها فى ذلك الوقت المبكر. أختاى اللتان تعملان بالتدريس تذكرانى يوميا بالجنديات المجهولات فى هذا المجال، وعملهن الذى لا نبجله بما يستحق، ولا نتوقف عند أهميته كما ينبغي. فالبطلات من المعلمات فى ربوع مصر تعلمن وقت الأزمة التعامل مع التكنولوجيا فى زمن قياسى، وبمجهود ذاتى فى الغالب، لتستمر العملية التعليمية عبر الإنترنت فى ظروف الوباء وانقطاع الدراسة.
الكثير من زميلات المهنة هن بطلاتى كذلك، ويشكلن دوائر للدعم، والإلهام، والضمير، والتحفيز، والتنافس فى بعض الأحيان. وفى مهنة تكافئ العاملين فيها بالشهرة أو الظهور، لا تسعى الكثيرات منهن سوى لأداء عملها بضمير ومهنية، ما أكسبهن تعبير الشغيلة الذى صكه الدكتور محمد السيد سعيد رحمه الله.
فى مدرسة للخط العربى، عرفت الكثير من البطلات المدهشات من مختلف الخلفيات المهنية، تجمعهن هذه الهواية الصعبة، والسعى لحفظ هذا التراث الفنى والإرث الثقافي. من بين بطلاتى فاطمة، التى تأتى من الصعيد يوميا لإتقان الخط العربى بهدف تحقيق حلمها وكتابة القرآن الكريم. فاطمة أخرى، بطلة تصغر ابنتى، كانت تأتى من إحدى محافظات الدلتا للتعلم إلى جانب دراستها الثانوية وحازت المركز الأول بموهبتها اللافتة ومثابرتها الدءوبة. فى بيتى أذكر بمزيج من الاحترام والخجل بطلاتى من عاملات المنزل اللائى رافقن عمرى، أخجل من أن عملى بالصحافة يحظى بالاعتراف والتقدير أكثر من كدهن، ويؤرقنى أن عطاء الكثيرات منهن قسرى تمليه الظروف والواقع الاجتماعى الذى فرض عليهن هذه الأدوار، وحرمهن حتى من العرفان بدورهن كمعيلات للأسرة، أو كطفلات ضحين بطفولتهن قسرا من أجل بقية أفراد الأسرة، التى ترسل الأنثى للعمل فى المدينة بينما تعلم الأبناء الذكور. إحداهن هى بطلتى المفضلة، كانت محبة للعلم وتتمنى لو كانت عالمة فيزياء لو لم تكن عاملة منازل. كم أتمنى أن يكون يوم المرأة مدعاة لفتح آفاق لتحقيق أحلامهن فى التعلم، والترقى الاجتماعى، وفى حياة كريمة. البطلات لسن دائما هادئات الطبع، أو متواكبات مع المجتمع والدور المرسوم لهن فى دعة واستسلام، فكل من تقاوم الظلم الاجتماعى، وتسعى لتوسع من هامش حقوقها وحريتها، هى بطلتى .. دمتن بخير ولروح أمى السلام