عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أيام إبراهيم عبدالمجيد الحلوة
7 مارس 2021
نبيـل عمــر


الأديب حكاء بالفطرة، ويتسلطن فى الحكى حين يتحدث عن نفسه، خاصة إذا كانت حياته فيها من النوادر والطرائف المثيرة ما يحفزه على الطرب والتمايل وهو يرويه، وكم امتعنا أدباء أجانب وعرب بأسرارهم الخاصة، حلوها ومرها، حتى لو كانت خارج المألوف، أو نتصور أنهم لا يملكون الجرأة لإطلاع الناس عليها، هكذا فعل جان جاك روسو وجورج صاند وطه حسين ولويس عوض ومحمد شكرى وغيرهم.



لكن أن يختار روائى اعترافات من عينة الأيام الحلوة فقط فهو أمر جديد، وهو ما فعله إبراهيم عبد المجيد، كما لو أنه يستفز القارئ على التساؤل: وهل تحلو الأيام إلا إذا كانت تمرق من بين أحزان تحاصرها؟، فالحزن وربما الألم على وجه الدقة هو سر الحضارة الإنسانية، هو نبع الفلسفة والشعر والموسيقى والفنون كافة، فالإنسان بحثا عن راحة باله وسعادة أيامه يكدح ويبتكر ويحب ويسافر ويسخر ويكتب ويعزف ويغنى ويرقص، وعلى رأى أجدادنا لا حلاوة دون نار، فلماذا اختار إبراهيم عبد المجيد الأيام الحلوة فقط؟.



من الصفحات الأولى تكتشف أن ثمة خدعة وقعنا فيها بكل بساطة وأن الأديب ضحك علينا وأن عالمه الخاص بالضرورة يتشكل من حلاوة الأيام ومراراتها، وهل يخلو عالم الأدباء والنشر والمثقفين عموما من الصنفين؟، هو عالم شديد الثراء وشديد التعقيد ويستحيل أن يعزل جانبا منه عن بقية الجوانب، لكنه كان حريصا وهو يكشف حصاد العنب المر أن يتجنب أسماء من أساءوا إليه، ويبتعد قدر الإمكان عن هؤلاء الذين وصفهم بأنهم وقفوا فى طريقه وحاولوا قطع عيشه لأكثر من عشرين سنة فى كل مكان عمل فيه. وفعلا لماذا يذكرهم إذا كان قد نجح فى القذف بهم خلف ظهره ومضى فى مسيرته روائيا وكاتبا فرش له المجتمع البساط الأحمر اعترافا بقيمته؟.



الميزة الوحيدة فى مرور إبراهيم عبد المجيد عليهم مرور الكرام أنه يضرب بهم أمثالا تفتح للموهوبين طاقة نور، فى تجاوزهم وعدم الالتفات إليهم، فما أكثر الموهوبين والمتميزين فى بلادنا الذين يتعرضون للتنكيل من أصحاب الأداء المتوسط فى مجالات كثيرة.



ويقول إبراهيم عبد المجيد: لكن العداوة تكون مؤسفة ومحزنة فى المهن الإنسانية، أعنى بها الفنون والآداب، فالمكر والخديعة أمران مكروهان، وشديدا الوطأة على الكتاب والمبدعين الأكثر حساسية، ويروى كيف كسر دائرة الحصار والإهمال المتعمد دون أن يتوقف أمامهم، وقد دون فعلا عشرات الصفحات عن تصرفاتهم القذرة بالتفاصيل، من تآمر أو ابتزاز لوزارة الثقافة ليحصلوا على عطايا نظير لجان شكلية واجتماعات لا تتم أو نسبة من إعلانات الوزارة لصحيفة يرأسها أحدهم، ولكنه مزق الأوراق، وكان محقا فكل ما يقومون به هو زبد فى البحر يذهب جفاء، ولا تبقى إلا الأعمال الأدبية والفنية الجيدة.



وطبيعى جدا أن تبدأ أيام عبد المجيد الحلوة فى الإسكندرية، خطواته الأولى وعشقه وحياته منذ عمل فى شركة الترسانة البحرية، بدبلوم الصنايع قسم الكهرباء، وفعلا أيام حلوة وهو يجمع بين العمل ودراسة الثانوية العامة والالتحاق بكلية الآداب، قسم الفلسفة، تيمنا بمؤسس الرواية العربية الحديثة نجيب محفوظ، ما أجمل الأيام التى يتحدى فيه الإنسان ظروفه ويكسر عنقها ويلويها كيفما شاء. وتنتقل حياة إبراهيم عبد المجيد نقلة هائلة، مع رحيله إلى القاهرة النداهة، مركز الضوء ووكر الثعالب، قبلة الموهوبين وتغريبة الحيارى، سلم المجد ودهاليز المؤامرات، نجمة الشمال للحالمين ومتاهة المغضوب عليهم، خاصة إذا كان العمل فى الثقافة الجماهيرية، قطعا لا أعنى المكان ولا الوظيفة، إنما عالم الثقافة بتركيباته ومصالحه وصراعاته ومنافعه وقسوته التى لا تقل أبدا عن عالم سوق الخضار كما صوره المخرج الرائع صلاح أبو سيف فى فيلم الفتوة، وكتب مشاهده نجيب محفوظ كبير كبرائنا فى الأدب.



نعم هو كذلك، لقد نقش نجيب بعضا من قسوة عالم الثقافة فى شخصيات الفتوة، فقد رأى وحفظ ورصد فى رواياته بعضا منه، فى الشحاذ، واللص والكلاب، وثرثرة فوق النيل والحب تحت المطر. وإذا كان عبد المجيد يتجنب الخوض فى سفالات الآخرين ضده إلى حد كبير، إلا إنه يروى جانبا مما شاهده، وتستوقفنى حكاياته عن الدكتور سمير سرحان.



وسمير سرحان صاحب فضل عظيم على الثقافة المصرية، دور مؤثر قد لا يقل عن دور الدكتور ثروت عكاشة، مؤلفا وكاتبا مسرحيا وأستاذا جامعيا ومؤسسا لمجلات ثقافية ومشرفا عليها، مبتكرا لقوافل ثقافية ومهرجانات تتواصل مع المواطنين الذين يعيشون بعيدا عن القاهرة، رافعا معرض القاهرة الدولى للكتاب إلى أكبر تجمع ثقافى عربى يتجاوز عدد زواره خمسة ملايين زائر سنويا.



وبالرغم من كل هذا كان سؤاله الصباحى يوميا وهو رئيس هيئة الكتاب إلى مديرة مكتبه: من شتمنى اليوم؟ وكان من عيوب الدكتور سمير أنه نشر فى مكتبة الأسرة كتبا لأسماء لا تستحق أن تنشر، إرضاء لبعض رؤساء تحرير صحف كبرى، وحين قال له إبراهيم عبد المجيد: هذه كتب أغلبها مقالات لا معنى لها.



رد عليه: أنظر إلى الصحيفة فى اليوم التالى لظهور الكتاب. وبالفعل رجع عبد المجيد إلى الصحيفة فوجد رئيس التحرير صاحب الكتاب وقد أفرد صفحة فى محاسن سمير سرحان. أى كانت الشتيمة هى عقاب من الشتام لخروجه من عطايا النشر المُجامل.عموما كانت نسبتهم ضئيلة وغير مؤثرة فى أهم مشروع ثقافى عرفته مصر فى الخمسين سنة الأخيرة.



ويروى إبراهيم عبد المجيد حكاية مشابهة عن هجوم حاد يشبه غارات الذئاب الجائعة على قطيع من الحملان الوديعة، حين أصدر وهو رئيس تحرير سلسلة كتابات جديدة رواية الصقار لـ(سمير غريب)، فكتب الأستاذ فهمى هويدا منتقدا مشهدا يجدف فيه احد شخصيات الرواية، وقامت الدنيا لثلاثة أشهر من القصف المركز على عبد المجيد والرواية سماها أياما سوداء. ثم ينتقل إلى أيام بيضاء فى رحلاته إلى باريس وترجمة رواياته إلى اللغات الأجنبية، وينهى كتابه الممتع (الأيام الحلوة فقط) بعبارة رائعة: اعتقد أنى نجحت ألا أذكر اسم كل جبار أثيم.